إنهم فتية آمنوا بربهم
فمن الدروس العظيمة في هذه القصة، وليت الشباب يعيها جيدًا: وهي مستمدة من قوله تعالى {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}، وللمؤمن أن يتساءل متعجبًا! أين السعادة في أن يبقى الإنسان في كهف مظلم، خشن، بعيد عن الناس، وعن أسباب الحياة الفارهة؟! وأين السرور وهو بعيد عن ملذات جسده التي اعتادها؟!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن أحب الأحاديث إلى النفس، هو ذلك الحديث الذي يتجه إلى وقود الأمة، وعدتها في الحاضر والمستقبل..
وإذا أراد أحدنا أن يتحدث عن هذه الفئة، أو إليها فلن أجد أحسن منطلقًا من أن يذكّر الشباب بقصة أناس من أترابهم، في قصة عجيبة، ومؤثرة.. فمن هم أولئك الشباب الذين خلد القرآن ذكرهم في خمس عشرة آية، وأثنى عليهم ربهم؟ وقص خبرهم على رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! وما الذي أهّلهم ليبلغوا هذه المنزلة العالية؟!
أما متى كانوا؟ وأين عاشوا؟ ومن هم؟! إلى غير ذلك من الأسئلة الجدلية التي يطرحها البعض، فهذا مما طوته الآيات الكريمة، فلا حاجة لنا بالبحث عنه، إذ لو كان له أثر لذكر لنا، وقد ألمح القرآن إلى ترك الخوض في ذلك، في قول الله -سبحانه وتعالى-: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، وهؤلاء الفتية -كما يفهم من السياق- عاشوا في زمان ملك مشرك، ظالم، غاشم، يحمل الناس على الكفر ويستعين بمن معه جنود وأعوان، فلما شرح الله صدور أولئك الفتية للحق ـوكانوا من علية القوم- واجتمعت كلمتهم على رفض الباطل والشرك، بل والإنكار عليهم ودعوتهم إلى الحق، رُفع أمرهم إلى الملك الظالم، فأحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم، وما هم عليه فأجابوه بالحق.
فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله، أبى عليهم، وتَهَدّدهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجَّل البتّ في أمرهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة، فخرجوا تحت جنح الظلام وساروا حتى وصلوا إلى كهف في جبل رأوا أن يناموا فيه على أن يواصلوا بعد ذلك سيرهم، فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور.
وكان من رحمة الله بهم ـومن آياته العظيمةـ في هذا الغار، أن الشمس لم تكن تواجه فتحة الكهف، بل كانت الشمس تأتيه أولّ النهار وآخره {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف من الآية:17]، فلما أووا إلى ذلك الكهف ألقى الله النوم عليهم، ولم تنطبق أعينهم حتى لا يسرع إليها البلى؛ لأن بقاءها في الهواء أبقى لها، قال تعالى {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف من الآية:18]، وقد رافقهم كلبهم الذي اصطحبه للصيد، فأصابه ما أصابهم من النوم، قال تعالى {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف من الآية:18] أي باب الكهف أو فنائه، كعادة كلاب الحراسة، فبقوا في نومتهم هذه ثلاثمائمة وتسع سنين، آيةً عظيمة من آيات الله.
هذا حاصل -باختصار- قصتهم في أول أمرهم، وفي ذلك من الدروس والعبر الشيء الكثير، ومن ذلك:
1. أن على العبد أن يفعل الأسباب الكونية، مع العناية بالأسباب الشرعية، ولذا جمع هؤلاء الفتية هذين الأمرين: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف من الآية:10] -وهذا هو جهدهم وبذلهم للسبب، ثم لما بذلوه تعلقوا بربهم-، {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف من الآية:10].
2. ومن عبر هذه القصة العظيمة: الفرار بالدين من الفتن عند خوف الإنسان على نفسه من الكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (سنن أبي داود)، قال ابن كثير: "ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع".
وهذا الفرار -عباد الله- ليس خاصًا بفرار البدن من موطن الكفر، بل حتى يشمل الفرار من البيئات التي يكثر فيها الشر، أو يظهر الخنا! ولك أن تعجب -وأنت تقرأ هذه القصة ونحن في عصر فتن الشهوات- من أناس لا يهربون من مواطن الفتن، بل يركضون إليها ويربطون متاعهم لها، وينفقون الأموال الكثيرة، بحثًا عن اللذة الحرام، والمشرب الحرام -عياذًا بالله-!
وأخطر من هؤلاء من يفضل الإقامة في بلاد الكفر من غير مصلحة راجحة، فيؤدي هذا إلى الشر العظيم، والذي لو لم يكن منه إلا الذوبان في تلك المجتمعات الكافرة، والتي أثبتت الدراسات العلمية أن الجيل الثالث من المهاجرين إل تلك البلاد يفقد هويته!
ولقد حدثني طالبُ علم ثقة أنه شاهدَ بنفسه رجلًا قد أسلم حديثًا، لكن أباه سعوديٌ قد تنصر حينما سافر هناك، وبقي عدة سنوات، فتزوج من نصرانية، فتنصر معها بدلًا من أن يدعوها إلى الإسلام، والعياذ بالله.
إخوة الإسلام: كما أن هذا الفرار بالدين شامل لأي تجمع تربو مفسدته على منفعته، وكم في المجتمع من ذلك؟ والله المستعان! والفرار من هذا كله متعين، وعلى الناصح لنفسه أن يبحث عن صحبة صالحة، تعينه على الخير وتدله عليه.
3. أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ومن حفظ الله حفظه: فهؤلاء الفتية، تركوا الحياة الفارهة في زمانهم، وهربوا بدينهم لله، فآواهم ربهم إلى مكان يتوقع أن الهلاك فيه أقرب للنجاة! بل ونشر عليهم فيه رحمته، وأعمى الله عنهم الطلب، فأنجاهم الله -سبحانه وتعالى-، وخلّد ذكرهم، وجعل قصتهم مثلًا يحتذى، وسبيلاً ينتهج.
قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها، وأن من حرص على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران من الآية:198]" انتهى كلامه رحمه الله.
4. بركة صحبة الأخيار، فهذا حيوان -وهو كلبهم- نالته بركة الصحبة الصالحة، فتكرر ذكره أربع مرات، وأبقى الله ذكره وناله ما نال أهل الكهف من الحفظ والرعاية، فما ظنك بالآدمي إذا صحب الأخيار؟!
قال القرطبي -رحمه الله-: "إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء، فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخلطين، المحبين للأولياء والصالحين؟! بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم" انتهى.
إخوة الإسلام: قد يجد المرء -أحيانًا- من بعض الأخيار شيئًا يصرفه، أو لا يعجبه، وهذا أمر طبعي، فلا يصح أن يكون هذا سببًا في ترك صحبتهم، ولهذا يتضح لك سر التعقيب المباشر -بعد قصة أصحاب الكهف-، بأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو نبي معصوم، أن يصبر على صحبة الصالحين، وإن وجد ما وجد، فالخطأ يصلح بالتناصح لا بالتفاضح والتهاجر، قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام، أما بعد:
فمن الدروس العظيمة في هذه القصة، وليت الشباب يعيها جيدًا: وهي مستمدة من قوله تعالى {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف من الآية:16]. وللمؤمن أن يتساءل متعجبًا!! أين السعادة في أن يبقى الإنسان في كهف مظلم، خشن، بعيد عن الناس، وعن أسباب الحياة الفارهة؟! وأين السرور وهو بعيد عن ملذات جسده التي اعتادها؟! السر هو: أنه انتشرت فيه رحمة الله!! {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف من الآية:16].
فلفظة {يَنْشُرْ} تلقي بظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف الضيق الخشن، إذا به فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، إذا نزلت في تلك الأماكن رحمة أرحم الراحمين" (في ظلال القرآن [4/2262] بتصرف).
وفي المقابل، لنا أن نتساءل -ونحن في عصر يتفنن فيه دعاة الشر بالدعوة إلى الخنا والفجور والطرب الماجن-: أين الرحمة من مجلسٍ تدار فيه الخمرة؟! وأين الرحمة من مراتع يهتك فيه العرض؟! وأين الرحمة من مسارح يختلط فيها الرجال بالنساء للاستماع إلى صوت الشيطان ومزاميره إلى ساعات الفجر الأولى؟! وأين الرحمة من تلك المسارح التي تتعرى فيها الأخلاق قبل الأجساد، ويحصل فيها من الشر ما لا يعلمه إلا الله؟!
والله.. إن الكهف والبيت الخرب الذي يعمر بذكر الله، خير من فندق من فئة الخمسة نجوم إذا كان خاليًا من ذكر الله. وماذا يريد المؤمن؟! إلا رحمة الله، فإذا وجدت، فلتكن في أي مكان، فإنه المكان الهنيء.. وإذا نزعت الرحمة، فهو العذاب بعينه والشقاء بذاته!
اللهم إن ندعوك بما دعاك به هؤلاء الفتية: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف من الآية:10].