سنة الاختلاف بين الكون والإنسان!
تُرى ماذا لو كان الكون كله كتلة واحدة بدون حراك. هل هذا يعتبر كونًا؟! أم أنه لا بد أن تتبعثر هذه الكتلة الواحدة وتسير كل منها في فلكها؟
تُرى ماذا لو كان الكون كله كتلة واحدة بدون حراك. هل هذا يعتبر كونًا؟! أم أنه لا بد أن تتبعثر هذه الكتلة الواحدة وتسير كل منها في فلكها؟، أي لا بد من التغاير والاختلاف ووجود كواكب ونجوم متناثرة حتى يستمر الكون.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فلولا فتق الله لهذه الكتلة المتجمعة وفك رتقها ما وُجد كونٌ ولا وجدت حياة!
ونلاحظ الربط الذي في الآية بين الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وبين فتق الرتق الأول! فيالها من علاقة تستحق التأمل.
ولكي يستمر الكون ولا ينهدم قدَّر الله تعالى أن يكون الكون دائمًا في حالة اتساع، حتى لا يعود سيرته الأولى وينتهي كل شيء، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].
ولكن هذا الاتساع صممه الله تعالى بعناية فائقة لكي لا ينفجر الكون، فخلق الجاذبية الكونية بين الأجسام ووضع النجوم بمواضع محسوبة بدقة لا متناهية حتى يكبح جماح هذا الاتساع، قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75-76].
ولكن ماذا عن هذه الجاذبية؟ إنها لو زادت عن حدها لوقعت كل سدوم السماء علينا وانتهى الكون وانتهت الحياة كلها دفعة واحدة، لذلك فقد ضبط الله تعالى الجاذبية الكونية بميزان دقيق حتى يحدث المنافسة المطلوبة بينها وبين الاتساع، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحج:65].
وقال أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41].
ولكن تأملوا! إنه يوجد في عالم الناس نفس هذا النظام! فلقد خلق الله البشر نفسًا واحدة...
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
ونفس الآية السابقة تدل على المقابل لعملية الفتق في الكون {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} فياله من تشابه بين الأمرين أمر فتق الرتق وأمر بث النسل من النفس الواحدة!
وبالرغم أن هذا قد يؤدي إلى التباين والاختلاف فإنه بدون هذا الاختلاف لما وجدت الحياة ولما كان لها معنى،
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم:22]، وليس الاختلاف فحسب بل الخلاف أيضًا! وقد وضعه الله لحكمة يعلمها! فسبحان الله الحكيم
قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
وقال أيضًا: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19].
وقال أيضًا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118-119].
ونلاحظ الشبه بين الآية الخيرة وبين أية اتساع الكون {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود من الآية:118]، مقابلة لقوله: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات من الآية:47] وذلك في آية الاتساع، ولكن قوله تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود من الآية:119] فيه دليل أن الاختلاف النافع إنما يكون له حدود إن زاد عنها انقلب إلى نقمة، فكما أن توسع الكون نعمة من الله إلا أن الله جعل النجوم بجاذبيتها للأجسام المتناثرة في الكون بمثابة المانع من ضرر الاتساع.
وكذلك الأنبياء والصالحون في عالم البشر، فوجودهم يجمع الناس على شريعةٍ واحدةٍ مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم وهم في ذلك كالنجوم يضبطون الاختلاف والتوسع والخلاف في حالة البشر ويقون الناس ضرره.
الاستنتاج:
الاختلاف والتباين من أعظم سنن الله في الكون وفي عالم الإنسان، فلولاه لانهدم الكون وانهدمت حياة البشر. وهذا الاختلاف لا يمنع من التقارب والتجاذب بل أن هذا التقارب والتجاذب يضبط الاتساع ويقننه ويقي من شره المحتمل.
والله أعلم
- التصنيف: