عقدة المؤامرة
صار بعضُنا يُفسِّر كل حركة وسكنة من حوله على أنها مؤامرة، ولئن تفهَّمنا أن الأفعال والأقوال والمواقف الفردية والجماعية والشعبية والرسمية التي ضد صريح الحق أنها مؤامرة، فكيف نفهم أن المواقف التي مع صريح الحق، ومع المظلومين أنها أيضًا على الدوام مؤامرات على قضايانا، أو أنها رايات تهزها الرياح ومن وراء كل أَكَمة ثعلب ماكر؟! في مقابل بعضٍ آخر حسَّن الظن بكل أحد، وأخرج من دماغه فكرة المؤامرة نهائيًّا، فصار عندنا طرفان متطرِّفان، فهل من وسط؟!
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى جميع من والاه واتبع هداه، وبعد.
يردد كثيرٌ من الناس مؤامرة مؤامرة.. حتى صِرنا إلى حد قول المنشد:
مؤامرة تدور على الشباب *** ليعرض عن معانقة الحراب
وهي فعلا مؤامرة كبرى، تُحاك خيوطها وتُنسج شباكها بالليل والنهار، وفي ظل المؤامرة العالمية على المسلمين، وفي ظل ضعف المسلمين، قام بعضنا بإطباق عمومها على كل الناس، حتى لم يبق في نظره إلا متآمر.
ومن المؤامرة أيضًا أن تفقد الثقة في كل الناس، حتى تبقى بلا صاحب، وتفقد الثقة في كل الأخبار السارة، فتعيش التشاؤم، في مقابل الطرف الثاني.. وكلا طرفي الأمر مذموم؛ لأن أسلوب التشكيك ونزع الثقة أيضًا أسلوب ماكر مؤامراتي، يجب الحذر منه الوقوفُ منه على المسافة الآمنة المطلوبة.
لقد صار بعضُنا يُفسِّر كل حركة وسكنة من حوله على أنها مؤامرة، ولئن تفهَّمنا أن الأفعال والأقوال والمواقف الفردية والجماعية والشعبية والرسمية التي ضد صريح الحق وضد قضيتنا أنها مؤامرة، فكيف نفهم أن المواقف التي مع صريح الحق، ومع قضيتنا ومع المظلومين أنها أيضًا على الدوام مؤامرات على قضايانا، أو أنها رايات تهزها الرياح ومن وراء كل أَكَمة ثعلب ماكر؟! في مقابل بعضٍ آخر حسَّن الظن بكل أحد، وأخرج من دماغه فكرة المؤامرة نهائيًّا، فصار عندنا طرفان متطرِّفان، فهل من وسط؟!
كثيرًا ما نسمع مثلًا بأن تركيَّا عميلة وليست صادقة في نصرة المسلمين، وأن قَطَر قَطرة أمريكية في الخليج، ومواقفها تجاه قضية غزة ما هو إلا مؤامرة!
وأن قناة الجزيرة قناة عميلة لهذه الجهة أو لأخرى، وما تقوم به تغطية على المؤامرة، وأنها شريكةٌ لقطر في هذه المؤامرة، وما تركوها تنشر الحقائق وتفضح الخلائق إلا للتنفيس...
بل قيل عن بعض المشايخ الكبار المشهورين أنهم كذلك، لا لشيئ إلا أنه يقول ما يقول أشباهه، ولا لشيئ إلا أنه قال:
الموت يأتي مرَّةٌ * * * والقبر صندوق العمل
ولا أريد أن أدخل في تفاصيل هذا، ولا تجدني محتاجًا لأن أنفيَ أو أُثبت، أو أَتهم أو أُبَرِّئ! فهذا لا يعنيني هنا.
ولكني أعيد على مسامعكم معنى ما أجبت به سائلا سألني، وكونه سألني فقد فتح لنفسي الكلام والتجاوب معه، أمَّا أصحاب المؤامرة المطبقة، فكنت أمسك عنهم غالبًا، كما أيضًا أصحاب اللامؤامرة؛ لأنه كما قال القائل:
سارت مُشَرِّقةً وسرتُ مُغَرِّبًا *** شتان بين مُشَرِّقٍ ومُغَرِّب
قال لي بعض الأفاضل: ما تقول في موقف قطر وتركيا وغيرها؟.. يعني... كيف تُفسر مواقفهم هذه؟! وكيف يجرؤون على مخالفة أمريكا واليهود.. حتى هذه المواقف الناحلة استكثروها!
فقلت: هناك عدة تفسيرات لهذه القضية؛ كلها معتبرٌ عندي كافٍ، وقد تجتمع من غير تمانُعٍ بينها.
فأول ما أُفسِّر هذا؛ أفسره بالإيمان قبل العقل، وأول ما أُرجعُ هذا أُرجعه إلى الله سبحانه، وتدبيره للمستضعفين، ولنقض إجماع أهل الباطل، ولو بمبطِل مثلهم، لأن الأمة لا تجتمع على باطل، ولو كان مخالفُ جموع الباطل ضعيفًا مستضعفًا، فيكفيه قوة قوله الحق، بل ولو كان مُبطِلا إلا في هذه.
ومهما مكروا بنا وكادوا لنا، فإن مكر الله لنا وبهم أعظم، وكيده لنا وبهم أعظم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:42]، {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطلاق:15-17]، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
ولا يعنيني أن يُعتبر جميع حكام الأرض الإسلامية من غير أمة الإسلام في حقيقة الأمر أو لا يُعتبرون، لما يقيمون عليه دولهم من محادَّة شريعة الله تعالى وتنحيتها والتضييق على المنادين بها.. لا يعنيني هذا، لأن صورتهم عند بعض العوام، بل عند بعض عوامّ الكفرة أنهم مسلمون، وإجماع هؤلاء المنتسبين على أمرٍ، يفوت الحق عليهم، فمن حكمة الله تعالى أن يبعث من بين هؤلاء من ينقض إجماعَ أصحابه على الباطل، من حيث لا يدري، وربما من حيث لا يقصد، فيكون ذلك رحمة بفريقين من الناس: المستضعفين من المسلمين الذين قلَّ ناصرهم، والمستغفلين من غير المسلمين الذين قلَّ داعيتُهم.
أضف إلى ذلك أنه كما يوجد في أهل الخير شرٌّ قد يصل بتأثيره إلى أن يُهدر قيمة ما معهم من حق، فكذلك في بعض أهل الشرِّ خيرٌ؛ قد يؤثر في بعض المواقف أثرًا أبلغ مما وطَّنوا عليه أنفسهم من شر!
ودعنا نفرض – جدلاً- الأسوأ في نية قَطر وقناة الجزيرة وأردغان تركيَّا ومن جرى مجراهم، فما يمنع أن يكون ذلك من نصرة الله تعالى للمستضعفين ونصرة الحق بأمثال هؤلاء، ولو لم يكن لهم من الأجر نصيب، ولو لم يكن لهم من الدين حظٌّ؟!
وما لنا نذهب بعيدًا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «البخاري؛ صحيحه، برقم[3062]، ومسلم؛ صحيحه، برقم:[178]) وفي رواية: « »(الألباني، صحيح الجامع، برقم:[1866]) وفي رواية: « »(الطبراني، المعجم الكبير، برقم:[56]).
»(وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «
»، « »، « »: "أي من أهل الدين لكونهم كفارًا ومنافقين، أو فُجَّارًا على نظامٍ دَبَّرَهُ وقانونٍ أحكمَهُ في الأزل؛ يكون سببًا لكفِّ القَوي عن الضعيف؛ إبقاءً لهذا الوجود على هذا النظام على الحد الذي حَدَّهُ، وهذا يحتمل أنه أراد به رجالًا في زمنه، ويحتمل أنه أخبر بما سيكون؛ فيكون من معجزاته، فإنه إخبارٌ عن غيب وقع. والأول هو الملائم للسبب الآتي، وقد يقال: الأقرب الثاني؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" [عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير، 2/ 259].و «النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام موقفًا في الجاهلية، فقد قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: « » (ابن كثير؛ السيرة النبوية: 1/ 258])، وإجابته لتحالف دعم الشرعية والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يعني أنه يَنصر عليه وينضم إليه، ويقبل من ينصره عليه، وإن اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، ما لم يكن تعارض المبادئ وتناقض الأهداف من وراء ذلك التحالف...
»، قد تكون بمعنى لا حظَّ لهم ولا نصيب في الإسلام فهم على غير ملته أو على غير سنته، كما قال عمر رضي الله عنه:"لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة" (الإمام مالك، الموطأ، برقم:[117])، أو يكون بمعنى لا نصيب لهم من مصلحة، ولا فائدة لهم يرجونها من وراء نصرة الإسلام والمسلمين، لا جلبًا لمصلحة لهم، ولا دفعًا لمفسدة عن أنفسهم، وحتى وإن كان؛ فلا عيب في قََبول مواقفهم واحتسابها لهم وتثمينها، وقد ثمَّنولستُ أقول أن هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام من هيئات أو قنوات لا خلاق لهم من دين أو أنهم فجار.. كلا، وإنما أفرض الأسوأ من أجل النقاش فحسب!
والنتائج الواقعية بهذه المواقف، وحدوث بعض التوازن في بعض موازين القِوَى، وحدوث انشقاق في عرمرم الظلم والتآمر، وانكشاف حقائق بها، ووصولها إلى العالمين، هي نتائج لا يخالف فيها إلا شانئ أو مُغَيَّب.
ثم دعنا من المنتسبين إلى الإسلام، فلهزيمة الأمة الداخلية لا يُصدِّقون أن من بينهم من لم ينهزم، وأن من بينهم من يقف في وجه الغطرسة الأمريكية أو الهيمنة الصهيونية، ولو بقدر المستطاع، ولو بجهد المُقِل، ولو ببيانِ شجبٍ واستنكار!
ولكن ما ذا يقول أصحاب شطط المؤامرة في رؤساء أمريكا اللاتينية! أهم متآمرون أيضًا.. فلا هم منتفعون ولا متضررون، لا من انتصار غزة ولا من إبادتها، ومع ذلك يقطعون العلاقات مع دولة بني صهيون، ويصفونها بالدولة الإرهابية، وينادون بعدم تسليحها، وبمحاكمتها بجرائمها في حق الإنسانية.. أهي المؤامرة والنفاق والمصلحية أيضًا؟!..
وهَب أن لهم مصلحة، أما ترى النبي صلى الله عليه وسلم كتب في وثيقة المدينة الدستورية تعاقده مع يهود على التناصر والدفاع عن المدينة، لا لدينهم، ولكن لمصلحتهم الوطنية، ما داموا مواطنين مسالمين لم ينقضوا أو ينكصوا... فلمَّا فعلوها فعلها عقوبة من جنسها.
ألا يُعقل ويُقبل أن يكون الله تعالى يُقيِّض لأوليائه ولدينه ناصرين فُجَّارًا ما هم من أهل الإسلام ولا خلاق لهم؟!
من الذي نقض الصحيفة الظالمة، ومعاهدات أوسلوا ووعد كسنجر وبلفور القديمة في مكة المكرمة، حين اجتمع حُكَّامُها على إطباق الحصار على المسلمين في شعاب مكة، وفيها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الأولون، وفيها من ليس منهم من بني هاشم وغيرهم ممن لم يسلم بعد، وإنما أخذته الحميَّة التي لم نر منها شيئًا في كثير من أدعياء الإسلام والعروبة؟
ولمن لا يراجع السيرة النبوية أو لا يتمنج بها، نذكر له طرفًا منها: ذلك أنه لَمَّا "عرفت قريشٌ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قد منعه قومُه؛ فأجمع المشركون منهم على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشِّعب، وأجمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا يُنْكِحُوهُمْ وَلَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صُلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسلموا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للقتل"(الصالحي؛ سبل الهدى والرشاد:[2 /15]). قلت: وها هم الآن يتعاهدون ويتعاقدون ويُخرجون مواثيق وأحكامًا قضائية أن المسلمين إرهابيون وحماس إرهابية ويجب حصارها حتى الاختناق، بل ويُحرِّمون التناكح معهم، حتى دعَوْا الزوجات إلى (تطليق) زوجها الإخواني! ويجب حصار الشَّعب الذي دخل معها الشِّعب حتى يُسلم لها حماسًا والمقاومة كما فعلت قريش تمامًا، بل المطالبة أيضا بحصار قطر وقناة الجزيرة وتركيَا لأنها ضد حصارهم، وقد آمنت بالمقاومة حقًّا مشروعًا.. وها هو التاريخ يتكرر، فهل من معتبر؟!
ثم "علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم وقطعوا عنهم الأسواق ولم يتركوا طعامًا ولا إدامًا ولا بيعًا إلا بادروا إليه واشتروه دونهم...." (ابن كثير؛ السيرة النبوية: 2/ 48]). قلت: ولاحِظ استخدامهم للدين، حيث إنهم علَّقوا بيان الحصار في جوف الكعبة؛ رمز الدين ومهوى الأفئدة، وها هم اليوم أتباع أبي جهل يتمسحون بالدين ويستخدمون الهيئات العلمية والجوامع الإسلامية، وفتاوى مشايخ السلطان أو مشايخ أمن الدولة، والتاريخ يتكرر لمن يعتبر!
فلما "فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دِينًا والكافر حميّة..." (الصالحي؛ سبل الهدى والرشاد:[2 /377]). قلت: وأيضًا لا حظ أن معهم من ليس منهم، وما طردهم النبي صلى الله عليه وسلم بحجة صفاء الراية، وما كان ذلك عيبًا في الحركة، ما دام انضمام غير المسلمين لا يغير وجهة المسلمين، ولا يحرف منهجهم!! فاعتبروا يا فقهاء الفيس بوك!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حُصِرنا في الشِّعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يُبايع حتى يرجع، حتى هلك من هلك"(المرجع السابق). فلا تشتروا من دكاكين المسلمين، وقاطعوا منتوجاتهم.. فليت شعري هل يطبق المسلمون أسلوب المقاطعة أيضًا؟!
وكان آباء جهلٍ ولهبٍ يحرُسون حدود القطاع، ويقفون على أبواب المعابر وأفواه الأنفاق ليمنعوا ما قد يصل إلى المحاصَرين من لقمة عيش أو علبة دواء أو قطعة كساء، ولا يبالون بصبيٍّ أو شيخ يتضوَّع ألَمًا ويتضوَّر جوعًا: فقد " لقي أبو جهل الأوَّل حكيمَ بن حزام ومعه غلام يحمل قمحًا يريد به عمته خديجة وهي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم في الشِّعب، فتعلّق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟! لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة"(انظر: المصدرالسابق:378).
والذين قاموا بفك الحصار الظالم ونقض صحيفة الظلم هم أناسٌ من كبار قريش وعلى دينها، وينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
» و« » و « »..إنهم المطعم بن عديّ وهشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية المخزومي وأبو البختري بن هشام الأسدي أئمة الكفر ومن كبراء قريش... فقد تحركت فيهم إنسانيتهم، وقض مضاجعهم وحشية قومهم التي لم ترعَ صبيًّا ولا شيخًا، فبحثوا عن بعضهم البعض، وتآمروا بليل؛ لا على القضية الإسلامية، ولكن لصالحها، وإن لم يكن مقصودهم الإسلام كدين.
فهل تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بنظرية المؤامرة؟
هل قالوا: لا نتعامل معهم ولا نتفاعل مع مواقفهم الإيجابية بإيجابية؟
هل قالوا: إنهم يريدون أن يجرُّونا إلى الخروج من الشِّعب فيعتقلوننا أو يغتالوننا؟
هل قال هذا نصرٌ جاء به الله ولا كثَّر الله لهم خيرًا، والكفرُ ملة واحدة؟!
كلَّا! لم يفعل شيئًا من ذلك، بل انظر إلى الإيجابية التي تعامل بها النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء، فقد تذكَّر هذا الموقف النبيل من هؤلاء على شركهم، وأراد أن يكافئ هؤلاء ويردَّ لهم الجميل، فبعد أن أُسر من قريش عددٌ في غزوة بدرٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صحيح البخاري، برقم:[ 3139])، يريد أن يكافئه على موقفه النبيل يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم مستضعفًا.
»(البخاري؛إذن ما يمنعنا أن نتعامل بإيجابية كاملة مع المواقف الإيجابية إلى تصب في مصلحة قضايانا العادلة، مع أخذ كامل الحذر والحيطة، وأنْ لا نُستَغفَل، وأن نكون كما قال عمر رضي الله عنه: "لست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني".
بل إن قيام بعض أهل الكفر يدافعون عن قضايانا، قد يكون تفسيرها أيضًا وفق سنة الاستبدال، فمن سنن الاستبدال أن يستبدل الله بحكام العرب ومفكري العرب حين يتولون عن قضايا أمتهم ويتآمرون عليها من الأعداء، فيستبدلهم الله بقوم آخرين ينصرون المستضعفين.
لماذا هوس المؤامرة؟
لا ننفي وجود المؤامرة، وإنما ننفي أن يُفسَّر بها كل شئ! نعتقد أن المؤامرة هي الأصل اليوم، وخاصة على الإسلام والمسلمين، ولكن نجافي التطرف إلى أن كلَّ شيء مؤامرة، وبعض الناس يذهب إلى هذا التطرف في قضية المؤامرة لعدة اسباب وتحت ضغط عدة دوافع، منها:
لأنه متشائم جدَّا، كما يُحكى عن ذلك المتشائم الماشي في الصحراء، فوجد مكانَ مقيلٍ لقوم سبقوه، ووجد ثلاثة عيدان مربوطة من أعلاها كان يوضع عليها غطاءٌ أو ستار، لعله للاستظلال، وكان شكلها يشبه حرف (لا) أو شُبِّه له! ووجد نوى التمر الذي تركوه، فقرأ الأعواد بحرف (لا)، وقرأ من نوى التمر: (تَمُر)، فجمعها وقرأها: (لا تَمُرْ) فتشاءم من مواصل الطريق، ورجع من رحلته على أعقابه!
وبعض الناس يذهب هذا المذهب المتطرف للمؤامرة حتى يُعفي نفسه من التعامل الإيجابي يقعد؛ لأن هذه مؤامرة قد يكون وراءها حتف القضية أو حتف الأمة، وأنه ليس إلا رجل واحد، أو حكومة معزولة، أو دويلة مستضعفة.. فهو ينطبق على الفرد وعلى الجماعة والهيئة..
وبعضهم يخشى من الاعتراف بجميل فِعال الناس وقوة مواقفهم، فلا يستطيع تَحمُّل الموقف، لأنه يقيم عليه الحجة ويشهد عليه، فلم يجد بدًّا من أن يحطمها ويطعن في أهلها، ليقتلها بدلا من أن تشهد عليه.. ولكن هيهات لهؤلاء جميعًا.
والله تعالى أعلم
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: