خواطر قرآنية (سورة السجدة) - الحلقة الثانية عشرة

منذ 2014-08-20

لما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان.

الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:

في الآية التي معنا ينتقل الله سبحانه وتعالى، لوصف وبيان حال من لم يخضعوا لمقاصد هذه السورة، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بَيَّنَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِفيقول جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].

لما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَالِهِمْ حِينَ عَايَنُوا الْبَعْثَ، وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ، نَاكِسِي رُؤُوسِهِمْ.

أي: لو رأيت يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ناكسوا رؤوسهم عند ربهم، من الغم والذلّ والحياء والندم وشدة الوجل والخزي والخسارة، يقولون: أبصرنا يقينا ما كنا نشك ونكذب به في الدنيا من البعث والحساب يوم القيامة، لم يوقنوا في الدنيا اختيارًا فأيقنوا في الآخرة اضطراراً!

عِنْدَ رَبِّهِمْ لِبَيَانِ شِدَّةِ الْخَجَالَةِ لِأَنَّ الرَّبَّ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ الْمَرْبُوبُ، ثُمَّ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْخَجَالَةِ.

وفي الأصل هم يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا، لكن حذفت لبيان شدة خجالتهم!

قَالَ قَتَادَة: أبصروا حِين لم يَنْفَعهُمْ الْبَصَر. وسمعوا حِين لم يَنْفَعهُمْ السّمع.

نلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} [السجدة: 12] فلم يقل مثلاً: ولو تعلم؛ لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين، فحين يخبرك الله بأمر، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى؛ لأن عينك قد تخدعك، أما إخبار الله لك فهو الحق.

المجرمون جمع مجرم، وهو الإنسان المخطئ الآثم صاحب الخطيئة الذي أشرك أتى الكبائر وأجرم في حق خلقه وخالقه.

في معظم الآيات يقدم السمع على البصر إلا في آية قصة الكهف وهذه الآية والسبب، لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولاً، ثم نسمع ما نراه.

قال تعالى في سورة الكهف: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وقال في سورة السجدة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] والمعلوم أن الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ لأن فاقد البصر الذي يسمع يمكن تبليغه أما فاقد السمع فيصعب تبليغه ثم إن مدى السمع أقل من مدى البصر فمن نسمعه يكون عادة أقرب ممن نراه، بالإضافة إلى أن السمع ينشأ في الإنسان قبل البصر في التكوين. أما لماذا قدّم البصر على السمع في الآيتين المذكورتين فالسبب يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يراهم أحد، ولجؤوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد، لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف، وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم، إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية. 

وكذلك في آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمين الذين كانوا في الدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها ولا يبصرون لكن ما يسمعوه كان يدخل في مجال الشك والظنّ ولو تيقنوا لآمنوا أما في الآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه لأنهم أصبحوا في مجال اليقين وهو ميدان البصر {عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر من الآية:7] والآخرة ميدان الرؤية وليس ميدان السمع وكما يقال ليس الخبر كالمعاينة. فعندما رأوا في الآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولذا اقتضى تقديم البصر على السمع.

هنا بالذات يقدم البصر على السمع، لأن اليقين أقرب حصوله في البصر من مجرد سماع الخبر كما في درجات اليقين {عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر من الآية:5] تسمع بالخبر عن الجنة لكن لو رأيتها تكون عين اليقين، ثم حق اليقين إذا دخلتها.

في آية أخرى يختصر الكافر المجرم رجوعه إلى الدنيا بعمل واحد هو الصدقة، لما عرف فضلها وعاين حقيقتها وأجرها، يقول ربنا سبحانه واصفا هذا المشهد {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].

من هداية الآية:

الجزاء من جنس العمل، فكل من خالف أوامر الله في الدنيا سيعاقب بنقيض قصده يوم القيامة.

تنكيس رؤوس المجرمين يوم القيامة، إشارة إلى أن من تكبر وترفع ولم يستجب لأوامر الله في الدنيا، نُكِّس رأسه في الآخرة، ومن تواضع رفعت رأسه.

يصور لنا ربنا في هذه الآية مشهدًا من مشاهد يوم القيامة، وكيف يساق المجرم ذليلاً مهاناً، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا . هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:13-14]، كما أن هنالك مشاهد لأهل النار حري بنا الوقوف عليها وتأمل سياقها وما يحصل فيها من خطاب وكلام المجرمين في النار:
المشهد الأول: قال تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100].

المشهد الثاني: قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].

المشهد الثالث: قال تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].

المشهد الرابع: قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:49-50].

المشهد الخامس: قال تعالى  {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ . لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77-78].

فلا يستجاب لهم في رجوع أو شراب أو طعام أو تخفيف أو حتى القضاء عليهم بالموت، {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74-75].

اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

12- رمضان-1435هـ 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 0
  • 0
  • 131,599
المقال السابق
الحلقة الحادية عشرة
المقال التالي
الحلقة الثالثة عشرة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً