خواطر قرآنية (سورة السجدة) - الحلقة الرابعة عشرة
لما بين الله سبحانه للكفار، أنه لا رجوع لهم إلى الدنيا، أنبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي وترك الطاعة له، فقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ} [السجدة من الآية:14].
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
لما بين الله سبحانه للكفار، أنه لا رجوع لهم إلى الدنيا، أنبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي وترك الطاعة له، فقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ} [السجدة من الآية:14].
بعد أن يُلقى بالمجرمين في نار جهنم يقال لهم: على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم بيوم القيامة، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، وعملكم عمل الناسي له، لذا فإنا سنعاملكم معاملة الناسي لأنه تعالى لا ينسى شيئًا، ولا يضل عنه شيء، وهذا ما يسمى بأسلوب المقابلة أو المشاكلة.
{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا} [السجدة من الآية:14] أي: يقال للمجرمين، الذين ملكهم الذل، وسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليستدركوا ما فاتهم، قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب، فذوقوا العذاب الأليم، بما نسيتم لقاء يومكم هذا، وهذا النسيان نسيان ترك، أي: بما أعرضتم عنه، وتركتم العمل له، وكأنكم غير قادمين عليه، ولا ملاقيه.
وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعومًا، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم؛ أي: فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة: ذوقوها وجربوها بسبب نسيانكم وترككم الاستعداد للقاء ربكم في يومكم هذا، بترك الإيمان والطاعات.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [السجدة من الآية:14] أي: العذاب غير المنقطع، فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية، كان فيه بعض التنفيس والتخفيف، وأما عذاب جهنم -أعاذنا الله منه- فليس فيه روح راحة، ولا انقطاع لعذابهم فيها. {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة من الآية:14] من الكفر والفسوق والمعاصي.
فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا.
النسيان: الإهمال والإضاعة.
والباء للسببية: أي بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم.
والنسيان في قوله نسيناكم مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة.
{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة من الآية:14] أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي.
يومكم هذا: أضيف إلى ضمير المخاطب من باب التهكم، لأنهم أنكروا هذا اليوم في الدنيا، فلما عاينوه أصبح أشد اختصاصًا بهم.
ولأن الجزاء من جنس العمل، فلما نسوا وأهملوا وتكبروا عن أوامر الله وكذبوا بهذا اليوم واستبعدوا وقوعه، تركهم الله في العذاب وسبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالهم التدبر في حلول هذا اليوم.
ويقال لهم أيضاً على سبيل التأكيد: وذوقوا عذاب النار الدائم الذي تخلدون فيه بسبب كفركم وتكذيبكم وسوء أعمالكم.
فكأن الله يقول: إنني عاقبتهم على نسيانهم ذلك اليوم، بأن جعلتهم هملًا يوم القيامة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم عظيم مهين!
فإنْ كنتم قد تمردتم على الله وكفرتم به في دنيا محدودة، وعمرك فيها محدود، فإن العذاب الواقع بكم اليوم خالد باقٍ دائم، فخسارتكم كبيرة، ومصيبتكم فادحة.
الخلود إما في الجنة أو في النار، وهنا يذكر ربنا حال الكفار وخلودهم في النار، أما الموحد من المسلمين لا يخلد في النار لكن قد يدخلها بحسب ذنوبه ثم يخرج منها.
هذه آية عظيمة مزلزلة تقشعر لها الأبدان وترتجف لها القلوب وتخشع لها الأبصار، وقد حذرنا الله أن نكون كأولئك الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم!
يا من نسيت صلاتك وما فرض الله عليك من طاعات، تأمل إلى مآلك ونتيجتك يوم القيامة، هل تقوى على هذا العذاب؟!!
يا من فرطت في جنب الله، ألا تتفكر وتتأمل للحظات بأن هذه الدنيا فانية زائلة، وأنك ستقف بين يدي الله يحاسبك على ما اقترفت من ذنوب ومعاصي؟!!
فقد بين الله سبحانه وتعالى وفصّل في مواضع، ما الذي يذوقه الكافر المُعّذَّب في نار جهنم عياذا بالله؛ من الماء المغلي وعصارة أهل النار من القيح والصديد المنتن قال تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا . إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:24-25].
كما أنهم لا يجدون طعم الخلاص والراحة حتى فيما يشتهون من الموت، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
كذلك يذوق الكفار العذاب بأموالهم التي جمعوها وحرموا الفقراء حقوقهم في الدنيا، قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35].
يبين ربنا سبحانه في موضع آخر أصناف العذاب الذي يتذوقه الكفار في نار جهنم، يقول سبحانه: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الْأَثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:43-49].
وبالنتيجة يتذوق الكافر المجرم في النار؛ الذل والهوان وانقطاع الأمل متمثلا بالخلود الأبدي في العذاب {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة من الآية:14]، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ مُسْتَمِرٌّ وَأَنَّ سَبَبَ اسْتِمْرَارِ الْعَذَابِ وَعَدَمِ تَخْفِيفِهِ أَعْمَالُهُمُ الْخَاطِئَةُ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ نِسْيَانِهِمْ لِقَاءَ يومهم ذَلِك.
والسبب الرئيس في هذا العذاب الدائم؛ هو كسبكم وعملكم وما اقترفت أيديكم في الدنيا، وهنا لابد الإشارة إلى أهمية العمل الصالح وأنه سبب دخول الجنة لا مجرد العلم فقط أو الأماني، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
لذلك لا ينبغي أن نستزيد من العلم لمجرد العلم، بل لابد من العمل بمقتضى هذا العلم، وإلا سيكون حجة علينا ووبالاً يوم القيامة، قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]، روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: "قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره".
قال عليه الصلاة والسلام: «
» (صحيح).وقال صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح).ويقول عليه الصلاة والسلام: «
» (صحيح)، قال ابن عثيمين: "لك إن عملت به، وعليك إن لم تعمل به".عن مالك بن دينار قال: "مكتوب في التوراة: كما تدين تدان وكما تزرع تحصد".
ويقول علي رضي الله عنه: "هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ".
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرَّوِايَةِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ".
يقول أبو الدرداء: "إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما عملت فيما علمت؟".
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
14- رمضان-1435هـ
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: