عبر ودروس من زيارة بلاد الروس - (3- 6) ملاحظات وشواهد
مما يُلاحظُ أنَّ هذه الدولة في الأصل كانت نصرانية، وبعد انهيارِ الاتحاد السوفيتي جعل أولئك النصارى يعودون وبكلِّ قوة إلى الديانةِ النصرانية والدعوة إليها، ومن الأمورِ الملاحظةِ وجود الكنائس وكثرتها في كل مكان، بل في القرى الإسلاميةِ لا تكاد تخلو قريةً من وجودِ كنيسة، وساحة الكرملين -التي عاشت سبعين عاماً عاصمةَ الإلحاد- يُوجدُ فيها مجمع كنسي يعتبرُ من أكبر المجمعات الكنسية في العالم بعد روما..
القسم الثالث: ملاحظات وشواهد..
أولاً: مما يلفتُ الانتباهَ في الاتحاد السوفيتي السابق جمالُ تلك البلاد الطبيعي، والخضرةُ التي شملت جميعَ الأراضي، وإذا قُلنا إنَّ هذه البلادَ تمتدُ ألاف الكيلومترات، إنَّ الإنسانَ يطيرُ عدد من الساعات، فيرى تحته الأراضي الخصبة، والأنهار الطويلة، والغابات والمزارع إلى آخره.
ويتعجبُ الإنسانُ عجباً شديداً كيف أنَّ هذه البلادُ بهذه الخضرةِ، وهذه الأنهارُ التي لا توجدُ في أي بلدٍ في العالم، حيثُ يصلُ عرضها أحياناً إلى عددٍ من الكيلومترات، أنهارٌ عذبة ومزارع وبساتين، ومع ذلك كانت -ولا تزالُ الآن- تعيشُ عالةً على الغرب، وتأخذُ منهم كثيراً من أنواع الغذاء، وعلى رأسها القمح فيا عجبًا! كيف هذا؟
ثانياً: في مدينةِ موسكو وفي غيرها من الجمهورياتِ الروسية، توجدُ العماراتُ العالية، ذاتَ الشُققِ الصغيرةِ المكدسة، التي يعيشُ فيها الشعبُ بلا تملك، كلُ أسرةٍ تعيشُ في شُقةٍ صغيرة، فالإنسانُ يتجولُ ويدورُ في موسكو أو في غيرها من عواصم الجمهوريات، فأولَ ما يُلفتُ الانتباه هذه العماراتُ الشاهقة، التي تجدُها في كلَّ مكان، وهي التي يعيشُ فيها الشعبُ، أمَّا المنازلُ الصغيرةِ الخاصة، فقد كانت نادرةً جداً، ولكنها بدأت الآن تظهر..
وبالمقابلِ زُرنا بستاناً ضخماً في أحد ضواحي موسكو، هذا البستانُ موجود على أحدِ الأنهارِ المهمةِ، وفيه عددٌ من القصور، قصرٌ للغذاءِ وما يتعلقُ به، وقصرٌ للمحاضرات والمؤتمرات، وقصرٌ للسكن، وقصرٌ لكذا، لمَّا سألنا عن صاحبِ هذا القصر؟ قيل لنا: "إنَّهُ يملكهُ أحد أولادِ زعماءَ الاتحاد السوفيتي السابق"! فقلنا: سبحان الله، شعبٌ يعيشُ في شققٍ كعلبِ الكبريت، ويحرِّمُ على أفرادِ الشعبِ تملك شيءٍ، وهذا يعيشُ في بستانٍ كاملٍ ضخم، فهذه هي الشيوعية، وهذه هي دعاوى الاشتراكية، وهذه دعاوى حقوقِ العُمال.
ثالثاً: يلاحظُ في الوضعِ الاجتماعي في تلك البلادِ ما يلي:
1 التفكك الأسري: وهذه الخاصيةُ لا تختص بها الشيوعية، بل يشاركهم الغربُ فيها، فإنَّ الإنسانَ يعيش هناك مع زوجته، ولا يبقى معهُ أحياناً إلا طفلةً صغيرة، أمَّا أولادهُ إذا كبر، فكلٌ يمشي في سبيله.
2- الفسادُ والانحلال الأخلاقي: وقد برزت ظاهرتان عجيبتان في جميع روسيا أحدهما: انتشارُ الخمر، وهذا أمرٌ عجيبٌ جداً، فإنَّ روسيا هي أكبرُ دولةٍ تستهلكُ الخمرُ في العالم، ومن زارَ أوروبا وزار روسيا يجدُ الفارق بينهم، هو كثرةُ شربِ الروسِ للخمر عن الأوربيين، وإن كان الأوربيون يشربون أيضاً، لكن ليسوا في الإكثار كالروس! تقابلُ الإنسان في روسيا في الظهرِ والعصر، وفي الصباحِ والمساء، فتجدُ رائحةَ الخمرِ تفوحُ منه، والناسُ في الشارع يدورون سُكارى، إنَّهم شعبٌ يريدُ أن يغيبَ عن الحياةِ، والخمرُ أرخصُ من المياه العذبة، وتباعُ في أكشاكٍ صغيرةٍ، ولا تغلق هذه الأكشاك طوال الأربع وعشرين ساعة، يبيعون فيها المرطبات وعلى رأسها الخمور، بل أنك تجدُ عددُ الذين يشربون الخمور كثيراً جداً، بينما تجد المدخنين قلةً، نظراً لأنَّ أسعار الدخان غالية، فهو شعبٌ غائب.
3- تفسخ النساء: فهو تفسخٌ لا يوجدُ حتى في أوروبا، العُري وكثرةُ الزنا موجودةً هُناك بشكلٍ غريب.
رابعاً: الفسادُ الإداري والاقتصادي:
1- فالرشوةُ منتشرةً، ولا يكادُ يصلُ إنسان إلى معاملته إلا برشوة، ثم بعد ذلك ضعفُ الأجهزةِ والاتصالات وغيرها، تجدُ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يتصلَ بأي بلدٍ من العالم إلا بصعوبة، ثمَّ إنَّهم لا يستخدمون الوسائل الحديثةِ مثل الكمبيوتر وغيره، وتجدُ الأماكنَ الاقتصاديةِ والمحلات التجارية والأماكن الحكومية وغيرها لا تستخدمُ الوسائلَ الحديثة في التكنولوجيا وغيرها، فأين الشيوعيةِ التي كانت تُرعبُ العالم؟
2- انتشارُ سرقةِ السيارات: فإنَّ السيارةَ تُسرقُ في كلِّ لحظة، والسيارةُ إذا سُرقت لم يستطيع أحدٌ أن يصل إليها أبداً.
3- ارتفاعُ الأسعارِ وانخفاضُ قيمةُ العملة: فالدولارُ الواحدُ كان يساوي من ثلاثة إلى عشرةَ روبلات، ولكن الروبل انخفض كثيراً حتى أصبح الدولارُ يُباع بألفٍ ومائتي روبل روسي، ولا يزالُ بانحدار، وهذا من آثارِ تطبيقِ الشيوعيةِ الطيب.
خامساً: من المشاهد والظواهر هناك: ظاهرةُ نشاط المنصرين:
فمما يُلاحظُ أنَّ هذه الدولة في الأصل كانت نصرانية، وبعد انهيارِ الاتحاد السوفيتي جعل أولئك النصارى يعودون وبكلِّ قوة إلى الديانةِ النصرانية والدعوة إليها، ومن الأمورِ الملاحظةِ وجود الكنائس وكثرتها في كل مكان، بل في القرى الإسلاميةِ لا تكاد تخلو قريةً من وجودِ كنيسة، وساحة الكرملين -التي عاشت سبعين عاماً عاصمةَ الإلحاد- يُوجدُ فيها مجمع كنسي يعتبرُ من أكبر المجمعات الكنسية في العالم بعد روما، يوجدُ في خمس أو ست كنائس ضخمة جداً، منارتها تبلغُ أكثر من مائةِ متر عالية، وفيها نشاطٌ تنصيري، وإن كانوا قد جعلوا منطقةَ الكرملين كلها للسياحةِ، لكن الذي يمرُّ على هذه الكنائس يجدُ أن المنصرين هُناك يجمعون التبرعات، ويدعون إلى النصرانية في نفس الكرملين، وقامت الشيوعيةُ وامتدت سبعين عاماً، وهدمت مساجد المسلمين، لكنها أبقت هذه الكنائسُ على حالها، وهي مجمع ضخم!
سادساً: ومن الأمورِ والظواهر العجيبة: محاولةُ النصارى الدخول والسكن بين المسلمين:
ولقد أدى هذا انتشارُ هؤلاءِ النصارى في بلاد المسلمين، بل إنَّهم أحياناً يُعادلُ عددهم عدد المسلمين في بعض المدن، فإذا ذهبت إلى جمهوريةٍ إسلاميةٍ تجدُ الكنائسَ تُعمرُ فيها إلى الآن، بل إننا مررنا بجمعٍ قروي، رأينا فيه كنيسةً ضخمة جداً، هذه الكنيسةُ يُقيم فيها راهبٌ طُول العام، يدعو إلى النصرانيةِ وقد أبقاه الشيوعيون.
أمَّا الكنائسُ التي تبنى من جديد، ويُجددُ بناؤها فهي كثيرةٌ جداً، وكان لانتقالِ الروسِ إلى بلاد الجمهوريات الإسلامية أثرٌ كبيرٌ في تذويب الشخصيةِ الإسلاميةِ هناك، حتى أنك لا تفرقُ في الخلق ولا السلوك، ولا في قضيةِ ترك الصلاة، ولا في شُربِ الخمور، ولا تفسخِ النساءِ بين المسلمِ وغير المسلم، تقابلُ هذا الإنسان وتجدهُ على حالةٍ، وتسألُ عنهُ هل هو مسلم أم نصراني؟ فيقولُ لك هذا تتري أو طاجيكي إذًا هو مسلم، أمَّا في حقيقةِ حالهِ ومظهرهِ وسلوكهِ فلا تستطيعُ أن تفرق بين مسلمٍ وغيره..
وهذا كله من آثارِ المسخِ والإلحاد، والغزو الفكري الذي مارسه أولئك الشيوعيون والمنصرون من ورائهم، ومع هذا فإنَّهم يخافون جداً من الإسلام، كما يخافون أنَّ المسلم يرجعُ إلى إسلامه في يوم ما، وبهذه المناسبةِ أذكرُ أن أحد زُعماءُ الغربِ قال: "إننا يجبُ أن نؤيدَ رئيسَ البرلمان مع أنَّه شيوعي، لأنَّ أصوله إسلامية"، فهم يخافون أن يرجعَ إلى أُصولهِ الإسلامية، وقد نشطَ المنصرون داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه نشاطاً كبيراً، وذلك بعد سقوطه، ومن أمثلةِ ذلك:
أ- بناءُ الكنائس الجديدةِ الضخمة: وهذا أمرٌ لهُ خطورتهُ، لا سميا وأنَّ هذه الكنائس كثيراً ما تُبنى قربَ المساجد حتى تزاحمها.
ب- إقامةُ المؤتمرات التنصيرية هناك: وعند قدومنا هناك كان يوجدُ مؤتمرٌ عالميٌّ تنصيري، ولقد كان الإنسانُ يرى المنصرين أعداداً كبيرة قد جاءوا من بلادِ شرق آسيا ومن أفريقيا وأوروبا وأمريكا ومن كل مكان، جاءوا لهذا المؤتمر التنصيري في بلاد روسيا مع العلم أن هذا التنصير في بلاد المسلمين وغيرها.
ج- مزاحمة أي مشروع إسلامي: وقد حدثنا أحدُ الدعاةِ من تلك البلاد، أنَّه أفتتح مكتبةً صغيرةً لبيعِ الكتاب الإسلامي بسعرٍ مخفض، فقام النصارى بفتحِ مركزٍ بجوارهِ لتوزيعِ الكتبِ التنصيرية والهدايا بالمجان.
د- المنصرون من أوروبا: توضعُ لهم تسهيلاتٍ كبيرةٍ، ويأتون باسم الشركاتِ وغيرها، والإدارات الرسمية تعينهم، ومن ثمَّ تجدُ هؤلاءِ المنصرين منتشرين في كلِّ مكانِ، وهذا أمرٌ غريبٌ جداً، بل حدثنا أناسٌ من هُناك ممن قد لا يقيمون الصلاةَ لكن أصولهم إسلامية، قالوا لنا إنَّ خطرَ التنصير قام علينا، هؤلاء المسلمون وإن كانوا لا يصلون إلا أنَّهم يرفضون التنصيرَ ويحسون الخطر، ويقولون: "لا نريدُ أن نتنصرَ، ولا نُزيدُ لأولادنا أن يتنصروا، نُريدُ أن نكون من المسلمين"، وهذا من العجائب.
سابعاً: ومن المظاهرِ هناك نشاطُ الرافضةِ والمذاهبِ الهدامة -وهذه حقيقةً مؤسفةً حقاً- فإنَّ أهلَّ البدعِ من الرافضة وغيرهم يقومون بنشاطٍ قوي هناك، ويركزون تركيزاً قوياً على المسلمين وعلى الجمهوريات الإسلامية.
ثامناً: نشاط الطرقِ الصوفية هناك: وما فيها من شركٍ وبدعٍ حيثُ توجدُ أحياناً بعض القبورِ التي تُزارُ ويُذبحُ لها، وتُدعى من دون الله تبارك وتعالى وهذه الطرقُ الصوفية موجودةً في تلك البلادِ الإسلاميةِ، وخطرُها عظيم، لأنَّها قد تُستبدلُ بالحكم الشيوعي، أو غيره شركاً آخر بالله سبحانه وتعالى، ولم يقتصر الأمرُ على هؤلاءِ فقط، بل هناك أيضاً من الملا حدة البهائيين والقاديانيين وغيرهم ممن دخلَ إلى تلك البلاد، وحدثنا المسلمون هناك، أنَّ دعاةَ البهائية وغيرهم لهم أتباع.
الرابط الصوتي: العبر والدروس من زيارة بلاد الروس
عبد الرحمن بن صالح المحمود
أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.
- التصنيف: