تعامل طالب العلم مع الفتن والنوازل (2-2)
ينبغي أن نعلم أن مثل هذه الفتنة -الإعلام- ومنها فتنة الإنترنت لا يمكن أن تكون فتنة شرًا محضًا بل سيكون فيها خير، وهذا الذي قصدت أن ينطلق طالب العلم من الخير الذي يكون في مثل هذه الفتنة أو الشر التي أطلت علينا به
الأسس التي يجب على المسلم أن يتسلح بها في مواجهة الفتن..
يجب على المسلم أن يتسلح بالسلاح الصحيح في مواجهة الفتن، وهو يقوم على ثلاثة أسس:
الأساس الأول: إيمان صحيح وعبادة صحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي وقت الفتن بالعبادة، لم؟! لأن العبادة الخالصة لله تشغل الإنسان عن أمور الفتن؛ فبعض الناس يهوى أن يلغ في الفتن هنا وهناك، لكن إذا جاءت العبادة ضَعُف؛ فلا يلتذّ لركعتين لله رب العالمين، لكن يلتذّ أن يجلس أسبوعًا وأسبوعين يتابع كلامًا من هنا ومن هناك، إن هذا خلل في المنهج والتعامل مع هذا النوع من الفتن، الواجب على الإنسان أن يقوي إيمانه وصلته بالله عز وجل وقت الفتن، لم؟! لأن هذا يحمي الإنسان، ويعلقه بالله عز وجل فيستنير قلبه بنور الإيمان والعبادة والطاعة..
هذا النور الرباني يعين الإنسان على استبصار النور الحقيقي وقت الفتن، قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: « » (صحيح مسلم) (1)، أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: في حال الهرج والقتل ونحو ذلك إذا تفرغ الإنسان للعبادة كان عمله وطاعته هنا من أفضل ما يعمله الإنسان في هذا الوقت.
الأساس الثاني: علم صحيح مؤصّل مبني على دلائل الكتاب والسنة، وأحب أن أنبِّه إلى أن النبع الصافي للعلم الصحيح يُحتاج إليه وقت الفتن أشد من غيره، أرى أحيانًا بعض الناس إذا جاء وقت الفتن يقول: أريد كتبًا كتبها العلماء وقالوها ونحو ذلك، أريد الكتب التي تبيِّن..
نقول: نعم أنت تستفيد من الكتب، لكن اعلم أن أحسن وأقوى ما يُحتاج إليه هو العودة إلى النبع الصافي، يعني مهما كُتِبَ لن يكون خيرًا من مدارستك لكتاب الله عز وجل تلاوةً وحفظًا وتعلمًا، لن يكون خيرًا لك من كتاب الله عز وجل ومثله أيضًا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لذاك نحن نقول: كلما أظلمت الفتنة كلما احْتَجتَ إلى قوة النور، يعني أحيانًا الإنسان عندما تكون الفتنة ليست قوية يحتاج إلى القليل من العلم، والحمد لله يسير في هذا الإنسان، لكن إذا أظلمت واشتدت الظلمة أنت بحاجةٍ إلى نور قوي، وأين هو؟! من هذين النبعين:
الأول: من منبع الإيمان والعبادة والتعلق بالله، وكان السلف الصالح إذا اشتدت الفتن التجؤوا إلى الله، وألحوا بالدعاء.
الثاني: جلسة التفكر والعبادة، السجود الطويل هذا هو الإلحاح الذي يحتاج إليه المسلم، وأيضًا معه العلم الصحيح حتى يصير معك نور قوي: نور الكتاب والسنة، وأخطر ما يمر بالإنسان وقت الفتن أن يضعف نور الكتاب والسنة من قلبه، وأنا أرجو الله عز وجل أن يوفق طلبة العلم وهذه الصحوة المباركة إلى أن يعيدوا إلى قلوبهم نور الكتاب والسنة، نحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى نورهما؛ لعظمة الفتنة وليس هناك شيء يضيء للإنسان وقت الفتنة أعظم من هذا النور الإلهي، {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:40].
الأساس الثالث: التعامل والتعاضد مع إخوانه؛ طلبًا للعلم، ودعوةً إلى الله، وجهادًا في سبيله وخاصةً زمن الفتن، فالإنسان يحتاج فيه إلى أخيه الناصح الذي يذكِّره بالله، ويقرِّبه إلى الله، وليحذِّر من الغافلين الذين يبعدونه عن الله بأي نوع من أنواع البعد، أكثر ما يراهن عليه أعداء الله عز وجل لهذه الأزمة هو تفرق المسلمين، وهذه الفتن في آخر الزمان، نحن أحوج إلى أن تلتقي بها القلوب، وخاصة من يلتزم منهج أهل السنة والجماعة، تتفق قلوبهم على السنة وعلى الجماعة، وليحذروا من الفرقة والعدى والظلم، والنصوص والأدلة دلَّت على الإحسان إلى الإنسان والحيوان، أليس أخوك المسلم أقرب إليك من غيره في هذا الإحسان؟!، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (2)، يعني: إحسان.
يقول أحد الإخوة: قبل أمس بنينا بئرًا في أحد الدول الإفريقية في بلاد مسلمين، والقرية التي بنينا فيها البئر فيها قليل من النصارى، ولما أنهينا بناء البئر وصاروا يشربون ماءً زلالًا بدل المستنقعات، يقول: "ذهبت بنفسي وطرقت الباب على النصارى، وقلت لهم: هذا البئر إذا أردتم أن تشربوا منه، وقلت للمسلمين: إذا أتى أحد يريد أن يشرب لا تمنعوه".
هذا هو المنهج، لكن ألا يكون هذا الخُلُق لأقرب الناس إليك ممن يحملون همّك، وتسير أنت وهُمْ على منهج تدعون فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى منهج السلف الصالح، لا بد من التعاون والتعاضد، وإذا كانت الأمة على قلبٍ واحدٍ لا يستطيع أحد أن يقاومه، وانظر اليوم الغرب كيف يواجه اجتماع المسلمين على تعظيم القرآن، فعلًا أطبقت الأمة من أقصاها إلى أقصاها على تعظيم القرآن، وإنكار هذا الحدث العظيم لما التقت الأمة على شيءٍ أرعب الكفار، قد لا يرعبوا خوفًا، ولكن إرعابهم قد تطاوله أزمات بسبب التحدي للأمة المسلمة، فكيف لو أن المسلمين كما يلتقون على القرآن أيضًا يلتقون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدْيِّه والعمل لدينه والدعوة إلى الله وإلى غير ذلك.
مسألة معاصرة متعلقة بالنوازل، والفتن:
مسألة (الإنترنت): وهو من الفتن العظيمة، والكلام حوله يطول، لكن! أحب أن أختصر الكلام فيه من خلال عدة نقاطٍ:
الأول: ينبغي أن نعلم أن مثل هذه الفتنة -الإعلام- ومنها فتنة الإنترنت لا يمكن أن تكون فتنة شرًا محضًا بل سيكون فيها خير، وهذا الذي قصدت أن ينطلق طالب العلم من الخير الذي يكون في مثل هذه الفتنة أو الشر التي أطلت علينا به، أي أن الإنسان لما يرى الإنترنت الآن دخل البيوت وصار مشكلة، كيف أتعامل معها؟! أتعامل على أنها فتنة وشر؟! لا! -ليس فقط- ولكن لا بد أن أتعامل معها على أنها منطلق للخير، والسعي لنشر الخير وهذه الهمة العالية.
بعض الناس مثلًا يتعامل مع الإنترنت كأنه يريد أن يَسْلَم منه، والسلامة طيبة! لكن الهمة الأعلى منها أن ترد السلاح على العدو، يعني: هجم عليك العدو بسلاح تتقيه بترس إن صح التعبير، هذا نوع، النوع الثاني: أن تُمسِك بسلاحه وتضربه به، أيُّهم أقوي؟! طبعًا الثاني، وكيف ينشأ هذا؟! ينشأ حين ينشأ لدى طلاب العلم والمتعاملين مع هذه الوسيلة عزة نفس بهذا الإسلام، ترتفع به عن رذائل الإنترنت، الشكوى اليوم من رذائله وإباحيتها ومشاكله ونحو ذلك، يجب أن تسمو النفوس، وترتفع عن مثل هذه الأشياء.
مثل طالبٍ يذهب ليدرس في جامعةٍ في أمريكا أو كندا أو في غيرها، فيجد المستنقعات الإباحية، والطالب الجاد هو الذي يتعامل معها بكل وضوح ويسر، ويراها انحطاطًا، ولهذا تراه يرتفع فوقها، ويسمو ليتعلم العلم الذي جاء من أجله، ويرجع ناصرًا لدينه ولأمته فيكون متخصصًا في فن من فنون الطب وغيره من العلوم العصرية، وهو في نفس اللحظة أقوى ما يكون إيمانًا واستمساكًا بدينه.
الثاني: هو الحذر كل الحذر من أن يتحول الإنترنت إلى مدرسةٍ لأخذ العلم ولتوجيه وتحليل القضايا وغيرها ونحو ذلك، يعني لا يصح أن يكون مصدرًا، وأعني به ليس ما يخزن به مثلًا في بعض المواقع من التفاسير أو كتب الفقه وغيرها، هذا التخزين ما هو إلا تقريب للمعلومة، وإنما أتحدث عما يعرض من هنا وهناك، فينبغي لطالب العلم أن يؤصّل نفسه التأصيل العلمي الشرعي الصحيح، وأن يجعل تعامله مع الإنترنت هو تعامل الإنسان الذي قد يحتاج إليه في بعض الأحيان، ولا أرى أن طالب العلم يتحول إلى أن يتعلم من الإنترنت، بل يتعلم من كتب العلم وعلى المشايخ ويكون تعامله مع الإنترنت كأي وسيلة إعلامية.
الثالث: هو ما يتعلق بأخلاقيات الإنترنت، ويؤسفنا جدًا أن يتحول الإنترنت إلى ميدان للبذاءة ولغيرها، والمنهج الإسلامي هو: أن هذه تعتبر أقرب ما تكون إلى الأسواق التي هي أشبه بأن يتعوذ فيها من الشيطان، ولهذا لما تأتي للفرق بين المنهج الإسلامي وهذه الطرائق المستحدثة تجد الفرق واضحًا، انظر مثلًا إلى خطبة الجمعة والتي هي عند المسلمين من أقصى الدنيا إلى أقصاها يقف الخطيب أمام الحاضرين، ويتكلم وهم جالسون يستمعون، لا يجوز لهم أن يعبثوا، ولا أن يتكلموا، أو حتى لو أن الإمام دعا أو غير ذلك، بعض العلماء يقول: "لا يؤمِّن"، وبعضهم قال: "يؤمِّن بينه وبين نفسه لا يرفع صوته".
ما رأيكم لو أن خطبة الجمعة مفتوحة كالأسواق، وقف الخطيب يخطب: أيها الناس، فقام واحد وقال أنت ما تفهم، وقال الثاني أنت مجنون، وقال ثاني يا جماعة اتركوه، استمعوا إلي أنا سأخطب بدلًا منه، كيف سيكون الحال؟! قارن بين هذا وهذا، ولهذا نوصي بأن الإنسان يتعامل مع الإنترنت بكل حذر، وليعلم أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن التهويش والكلام غير الصحيح لا يضر إلا صاحبه.
النوازل التي تقع في الأمة:
وأختصر الكلام حولها في مسألتين:
الأولى: فهي أن النازلة ينبغي للمسلمين أن ينظروا فيها النظرة الشرعية كما كان السلف الصالح، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت تأتيه مسألة من المسائل فيجمع لها أهل بدر، والواجب على علماء الأمة إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن يكون بينهم اللقاء والنظر الشرعي والتشاور والاجتهاد؛ ذاك أنه قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]؛ ولذلك لا يجوز التفرق ولا الاختلاف.
الثانية: على طالب العلم ألا يستعجل في النوازل، وأعني به إذا نزلت النازلة لا يكون أول المبادرين؛ لأن أي نازلةٍ كما قال ابن القيم: "لا بد للإنسان في أي مسألة من أمرين:
1- معرفة الحكم الشرعي.
2- معرفة الفتن الواقعة" (3).
وأن تعرف النازلة ما هي؟! ما أبعادها؟! ما هي الأشياء المتعلقة بها؟! وفي مقابل ذلك تنظر أيضًا إلى الحكم الشرعي، بعض الناس أول ما تنزل نازلة يبادر ويتخذ الموقف وأحيانًا الفتوى ونحو ذلك، ونحن نقول ما كان منها يحتاج إلى تدبر ونظر في الواقعة فينبغي أن يتأمل فيها، ولذلك أنصح طلاب العلم أن يستشيروا من حولهم من العلماء يعني: إذا نزلت نازلة ما يجلس طالب ويبدأ يخوض فيه، وإنما يلتقي بإخوانه يلتقون بمن حولهم من أهل العلم ويتشاورون في المسألة، ويعرضون فيه الأمر من جميع جوانبه، ثم بعد ذلك قد ينتهون فيها إلى طريقةٍ معينةٍ في معالجة مثل هذا الأمر الذي يقع في هذه الأمة..
الفوضى التي تعيشها الأمة في هذه الأزمنة المتأخرة، وحقيقةً ما أظن إلا أن نوازل الأمة وسلبياتها ومشاكلها كثيرة جدًا، لا يعني هذا أنه ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا اجتهاد العلماء ما فيه جواب لها، وإنما نوازل الأمة تحتاج إلى طريقة ومنهج، وأسأل الله عز وجل أن يرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمرًا مرشدًا، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن! وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) (صحيح) أخرجه مسلم (2948) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
(2) (صحيح) أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) انظر: إعلام الموقعين (1/87).
عبد الرحمن بن صالح المحمود
أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.