أباء وأبناء - (1-3)

منذ 2014-09-01

لقد كانت الأجيال تمضي ونوح عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام، وقد ورد في بعض الآثار أن الرجل من قوم نوح كان إذا دقته الوفاة أوصى ابنه بأن لا يستجيب لنوح، وأوصى ابنه أن يعادي نوح ويعادي الذين آمنوا، ولكن الله تبارك وتعالى هو الذي ينصر رسله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.

هل رأيتم في البيوت ولدًا طالحًا وأبًا صالحًا؟ هل رأيتم في بعض البيوت أبًا طالحًا وولدًا صالحًا؟ هل رأيتم في البيوت أبًا صالحًا وابنا صالحًا؟ تلك نماذج أخبرنا عنها الله تبارك وتعالى في كتابه، ومن ثم فسيكون حديثي معكم عن شيئا من علاقتي الآباء والأبناء، والأبناء بالآباء في القرآن الكريم، ونبدأ بالنموذج الأول..

يقول الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر قصة نوح عليه الصلاة والسلام وقد دعا قومه، دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ . وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ . وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ . فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ . حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ . وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:36-43].

إن نبي الله نوح عليه الصلاة السلام بذل جهداً عظيماً في دعوة قومه، بذل جهداً كبيراً في دلالة قومه إلى الهداية وإلى السعادة، ودعاهم كما دعا الرسل جميعًا، دعاهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله، وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وقد مكث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام ما لم يمكثه رسول ممن أخبرنا الله تبارك وتعالى عنهم، مكث فيهم كما أخبر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عامًا، ونوع دعوته نوع دعوته عليه الصلاة والسلام في قومه، دعاهم ليلاً ونهارًا، سراً وجهارًا، بالأساليب المختلفة المتنوعة، ولكنهم أبوا إلا الفرار والإعراض عن الله وعن رسوله نوح عليه وعلى نبينا أفضل السلام.

كيف نشأت عبادة الأصنام عند قوم نوح؟
لقد ورد في ذالك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبادة الأصنام في قوم نوح، نشأت أول ما نشأت من الصور، فإن آدم عليه الصلاة والسلام كانوا على الإيمان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، وكانوا جميعاً على الإيمان، ثم لما أخذت عبادة الأصنام تبدأ فيهم، بدأت من خلال ماذا؟ بدأت من خلال عبادة الصور، جاءهم إبليس وقال لهم: "لو أنكم صورتم صور الصالحين من أصحابكم في أماكن العبادة، لتفوقت كلها على العبادة"، فظنوا أن هذا لا باس به وصوروا صورهم، فلما صوروا صورهم جاءهم الشيطان بعد مضي أجيال وقال لهم: "إن أصحابكم السابقين لم يصوروهم فقط ليتقووا بهم وإنما صوروهم لعبادتهم"، فنشأت عبادة الأصنام، وأصبحوا يضعون هذه التماثيل أمامهم، يعبدونها من دون الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، وهذه أسماء رجالاً صالحين كانوا من قوم نوح عُبدوا عن طريق الصور..

ونوح عليه الصلاة والسلام إذا كان قد بذل ذلك الجهد الكبير في دعوة قومه، فكيف سيكون جهده في دعوة أهل بيته؟ لقد أخبرنا الله تعالى عن امرأة نوح أنها كانت كافرة، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]، ولما كانت امرأة نوح كافرة كان لها تأثير على ولدها -على أحد أبنائها- فبقي على الكفر، ولقد بذل نوح جهداً كبيراً في دعوة قومه وفي دعوة أهل بيته، ولكن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].

وكفر قوم نوح، وقالوا لنوح عليه السلام: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]، ومعنى قولهم بادي الرأي: أي أن هؤلاء الذين يسمونهم الأراذل هم الذين استجابوا لنوح عليه الصلاة والسلام، قالوا عنهم إنهم استجابوا لك بسرعة بغير روية ولا فهم ولا تدبر، وهذه بلا شك وصمة يصفون بها كل من استجاب لنداء الله تبارك وتعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه: «ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كَبْوَة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عَتّم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه» (البداية والنهاية لابن كثير، ج3 ص37).

إذًا إذا تبين الهدى وتبين الطريق المستقيم، فإن الإسلام يصلحه ولا يتلعثم، أيها الإخوة لقد كانت الأجيال تمضي ونوح عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام، وقد ورد في بعض الآثار أن الرجل من قوم نوح كان إذا دقته الوفاة أوصى ابنه بأن لا يستجيب لنوح، وأوصى ابنه أن يعادي نوح ويعادي الذين آمنوا، ولكن الله تبارك وتعالى هو الذي ينصر رسله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].

استجاب لنداء نوح بعد أن مكث فيهم زمناً طويلاً يدعوهم إلى الإسلام، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلما يئس منهم دعا ربه تبارك وتعالى قائلاً: كما أخبر تبارك وتعالى عنه قال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76]، ويقول تبارك وتعالى عن نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر:10].

وانتصر الله تبارك وتعالى لنوح وكان في السفينة، وكان الغرق في قوم نوح وفي أمم الأرض جميعًا، ولم ينجوا مع نوح عليه السلام إلا القلة القليلة، قيل إنهم كانوا اثني عشر رجلاً، وقيل إنهم كانوا سبعين، وقيل كانوا ثمانين، وهذا بالنسبة لألف سنة إلا خمسين عامًا دعا بها نوح قومه، هذا بالنسبة لهذا الزمن الطويل عدد قليل، ولكن هذه العصبة المؤمنة نجاها الله تبارك وتعالى في السفينة مع نوح، وأغرق الله أهل الأرض جميعًا، فليعتبر المعتبرون من المؤمنين، ليعتبر المعتبرون في مصارع الطغاة ومصارع المكذبين..

أين ذهب الملأ من قوم نوح؟ أين ذهب الملأ من قوم هود؟ أين ذهب الملأ من قوم صالح؟ أين ذهب الملأ من قريش؟ أين ذهب أبو جهل وأبو لهب؟ أين ذهب شيبة وعتبة ابني ربيعة؟ أين ذهب عقبة بن أبي معيط الذين كانوا يعادون رسول الله وأصحابه؟ أين ذهبوا؟ لقد بقي للمؤمنين الذكر الطيب، وبقيت للمؤمنين السمعة الطيبة يذكرهم الناس فيقتدون بهم، ويذكرون أولئك فيدعون عليهم، وشتان بين هؤلاء وهؤلاء، لتعتبروا أيها الإخوة في مصارع الطغاة في الزمن القديم والحديث..

أيها الإخوة! إن نوح عليه السلام بلَّغ دعوة ربه وحرص كثيراً على هداية ابنه، وكان في دعوته لابنه أنه استمر يدعوه ويدعوه حتى والمطر ينزل، حتى والسماء تنبع بالماء، والله تبارك وتعالى أمر نوح عليه الصلاة والسلام أن يحمل في السفينة أهله والذين معه، وأن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين، وبينما كانت الأمواج تتلاطم، إذا بابن نوح قد ابتعد قليلاً، ولكن الأب الرحيم نادى، نوح نادى ابنه وقال: يا بني اركب معنا، اركب معنا لتنجوا، ولكن الابن الضال ولا حول ولا قوة إلا بالله أبى ورفض، وقال سأوي إلى جبل يعصمني من الماء، وأخبر الله تعالى عن نوح أنه قال لابنه: {قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43]. وكانت النتيجة أن حال بينهم الموج فكان من المغرقين، وبعد الغرق تتحرك العاطفة في الأب، ويقول هذا الأب مخاطباً ربه تبارك وتعالى: {نَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]. {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].

{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، وهنا يظن البعض أن معنى قوله تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: أنه ليس من ذريته، وأنه ولد زنى لقوله تعالى عن امرأة نوح فخانتهما، وهذا فهم خاطئ تماماً، بل إن امرأة نوح لم تخن نوحاً في عرضها، ولم تخن امرأة نبي نبياً قط، وإنما خانته في أنها كانت تتآمر مع قومه الكفار ضد نوح والذين آمنوا معه، وقيل أنها كانت تكشف أسرار نوح، وقيل أنه إذا دخل رجل في الإيمان ذهبت امرأة نوح إلى قومه وقالت لهم إن فلان دخل في الإسلام، فيلتون إليه فيسومونه سوء العذاب، أما كانت تخونه في عرضها فلا، وابنه كان ابنًا له فعلاً، لكن الله قال إنه ليس ابنك: أي أن ابنك هذا ليس من أهلك الذين أخبرتك ووعتك أنهم الناجون، لأن الله قال: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود:40].

ونوح دعا ربه تبارك وتعالى أن يكون ابنه من الناجين، لكن ابنه كان من الذين سبقت عليهم الضلالة، لو كان أحد يستطيع أن يهدي أحدا لاستطاع نوح أن يهدي ولده، ولاستطاع إبراهيم أن يهدي أباه، ولكن الهداية بيد الله تبارك تعالى.

المصدر: موقع الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود

عبد الرحمن بن صالح المحمود

أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.

  • 1
  • 0
  • 9,119
 
المقال التالي
(2-3)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً