المُراغَمَـــة: العُبوديةُ الغائبَـــة، والشَّعيرةُ الضائعة!
مما يغيظ عدوَّك منك، ليس فقط ما يصدر عنك مما يشينه ويوبِّخه؛ بل ما يحلُّ بك من سَعة في الرزق والنِّعَم، ويُدفَع عنك من سوءٍ ونِقَم؛ فهو ممَّا يُرغِم أنفَ عدوِّك ويغيظه!
قال عنها ابنُ القيِّم رحمه الله: "ولا يَنتبهُ لها إلَّا أولو البصائر التامَّة، وهذا بابٌ من العُبودية، لا يعرفُه إلا القليل من الناس، ومَن ذاق طعمَه ولذَّته؛ بَكى على أيَّامه الأُوَل".
* وهذه العُبوديَّة من أحبِّ عُبوديَّةٍ إلى الله:
قال ابن القيم رحمه الله: "ولا شيء أحبّ إلى الله من مُراغمةِ وليِّه لعدوِّه، وإغاظته له، فمُغايظة الكفَّار غايةٌ محبوبةٌ، للرب مطلوبة له".
* وهي من كمال العبودية، وعلى قدر محبة العبد لربِّه وموالاته؛ يكون نصيبه منها!
كما قال ابن القيم: "فموافقته فيها؛ من كمال العبودية، فمن تعبَّد اللهَ بمراغمة عدوِّه؛ فقد أخذ من الصدِّيقيَّة بسهمٍ وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته، ومعاداته لعدوه؛ يكون نصيبه من هذه المراغمة" (مدارج السالكين).
قلتُ: وجماع معنى المُراغمة..
في اللغة يقال: رغم أنفه، أي أُلصِقت بالرغام وهو التراب، وراغمْتُ فلانًا: هجرتُه وعاديتُه..
وكلُّ هَجْر وإذلال ومغايظة وشماتة ومُعاداة؛ فهي مُراغمة!
لذلك، فإن المُراغمة شرعًا، هي: اسمٌ جامع لكل ما يَحصُل به إغاظةٌ لأعداء الله من قولٍ وفعل.
ومما يغيظ عدوَّك منك، ليس فقط ما يصدر عنك مما يشينه ويوبِّخه؛ بل ما يحلُّ بك من سَعة في الرزق والنِّعَم، ويُدفَع عنك من سوءٍ ونِقَم؛ فهو ممَّا يُرغِم أنفَ عدوِّك ويغيظه!
كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً...} [النساء:100]. أي ترغيمًا لأنوف أعدائه بما حصل له من مَنعَة وحماية، بل إنَّ منها طاعتك وعبوديتك، وما يكون من صلاحك واستقامتك وجهادك.. كما في قوله عليه السلام عن سجدتَي السَّهو: « » (صحيح مسلم:571).
وكما في قوله تعالى: . {..وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ...} [التوبة:120].
ونصوص الشريعة من آي الكتاب، وسُنة نبينا عليه السلام؛ تموج موجًا بالدلائل والوقائع التي تدلُّ على هذه العبودية الشريفة الغائبة، كما في تجمِّع المسلمين لصلاة الجُمعة والعيدين، وكذا الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأُوَل من الطواف، وكذا التبختر والاختيال عند القتال.. إلخ.
ويدخل في ذلك: مُراغمة كلّ من عادى دينَ الله وأوليائه، ولو انتسبَ إلى القبلة وأهلها، ممن يُظهرون دومًا الشماتة بالسُّنَّة وأهلها، ويفرحون بالنكاية بالمسلمين ومصرعهم –لا سيما المجاهدون منهم-، ويغيظهم إعلاء شعائر الله! فمثل هؤلاء أولى بالمُراغمة، وما يجري عليهم من النوائب، بل ويُفرح بزوالهم، وإراحة البلاد والعباد من فُجْرهم وشرورهم..
وآثار السلف كابرًا عن كابر طافحةٌ بذلك، يعيهَا كلُّ من له مَسْحَةٌ من علمٍ، واطلاعٍ على كلامهم وعباراتهم! وكلُّ صادٍّ عن هذه المُراغَمة، مُنكرٍ لها؛ فلَه حظُّه من الدَّرْوَشة وأهلها!
- التصنيف: