هذا الدرس الحضاري .. كيف نتعلمه؟
ولقد كان من توابع ذلك الموقف الإقصائي التلويح بإنزال أشد صنوف العذاب والعقاب على كل من يتعاطف مع موسى أو يميل إليه أو يدعو له أو ينوه به. ذلك، ولم يكن ثمة عقوبة أشد من سلب الإنسان حريته، وحرمانه حقوقه في الحصول على المعلومات والحقائق مجردة بلا مزايدات أو مداخلات أو مداهنات...
لم يولِ القرآن الكريم قضية عنايته واهتمامه مثلما أولى قضية موسى وقومه مع فرعون وملئه: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3] . تلك القضية الملحمة التي شاء الله تعالى أن تتمثل قرآنا تتلوه الأمة المسلمة في صلواتها وأورادها، ويتغنى بذكرياتها الصغار والكبار آناء الليل وأطراف النهار، فيتشكل من ثم وعي الإنسانية المؤمنة بتلك الهدايات الإلهية المقررة للحريات وحقوق الإنسان حتى يضحى أجدر وأقدر على تحديد اختياراته الإيمانية ودراسة مقرراته الاستخلافية بعيدا عن الضغوط والمضايقات والملاحقات.
فجر الدعوة الإسلامية، والذاكرة المسلمة الناشئة مشحونة بذكريات سيئة وانطباعات محزنة أليمة.. ما فتئ القرآن الكريم يتحدث عنها، ويعرض صورا ومشاهد منها، وهي تلخص معاناة الأجيال المؤمنة على امتداد التاريخ من لدن آدم عليه السلام، وما تعرضوا له من عنت وعناد وتنكيل واضطهاد وملاحقات وتشريد وقتل، بسبب عقيدتهم الإسلامية واختياراتهم الإيمانية وأفكارهم الرافضة لظلم الشرك وظلام الجاهليات الوثنية بمختلف صورها، وبسبب تعلقهم بالله تعالى وانحيازهم لنبواته ورسالاته، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
ولقد كرس من تكثيف وتأثير تلك الصور الوحيوية في المخيلة والوجدان الإسلاميين: موجة العنف الظلامي التي اجتاحت تجمعات المسلمين الصغيرة على أيدي مخالفيهم من مشركي قريش وكفار مكة بوجه عام؛ فأيقن المؤمنون بأن ما يواجهونه من مخاطر وتحديات، وما يخوضونه من محن وامتحانات وفتن وابتلاءات.. إنما هو سنن وعادات ماضية في المجتمعات المؤمنة برسالتها في هذا الوجود منذ القدم.. يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ولعلنا نلاحظ أن الابتلاءات التمحيصية هي بمنزلة إجراءات قدرية تتغيا الفرز النوعي، وتخليص الصف المؤمن من أسباب ضعفه وتراجعه وانكساره وانحساره.. إنها التهيئة الصناعية على عين الرب جل وعلا ليكون المؤمنون أكمل إيمانا وأتم أهلية لحمل أمانة الله في الأرض، ويكونوا أكثر تهيؤا لمباشرة مهامهم الاستخلافية في هذا الوجود.. ذلك الذي يتطلع المستضعفون فيه إلى قوة ربانية تؤمن لهم الخروج من دين الطواغيت إلى الدخول في دين الله الواحد القهار.. قوة تخلصهم من هيمنة الكبراء، وتعتقهم من أسر الطواغيت، وتنقذهم من ملاحقة جبابرة الأرض، وتعفيهم من الوقوع تحت نيرهم، بل تنزههم عن شبه الركون إليهم والميل لهم، والافتتان بهم والانخداع بمكرهم، والاغترار بزينتهم وبهارجهم الكاذبة العارضة.. قوة تسمو بهم عن أن يزل بهم ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس إلى ملاينة الباطل ومداهنته والرضوخ له والإذعان لأمره، ومجاراته في باطله أو التبوق له وتكثير سواده. كانوا يتطلعون إلى قوة ربانية تحقق لهم فرصا أفضل للحياة في ظل اختيار إيماني بأريحية واقتناع وطمأنينة وهدوء، بعيدا عن أجواء القسر والقهر والتعسف والعنف، وعن ملابسات الإغراء والإغواء والاستقطاب الأمني والأيديولوجي الذي يمارسه سدنة الطغاة مع ضعاف النفوس.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن القرآن الكريم قد عبّأ المؤمنين بمشاعر النفور تجاه جميع أشكال الظلم والطغيان والاستبداد، وعمق من قناعاتهم الرافضة لكل صور العدوان على حرية الإنسان واستلاب حقوقه وانتهاك حرماته. ومن ثم، كانوا يتطلعون إلى تلك اللحظة التي تنكسر فيها أطواق الشر، وتنحطم فيها قيود الظلم، وتندك عروش الطغيان. وكانوا يستبشرون كلما تنزلت آية تشير إلى الخلاص من التهميش والحصار المضروب حولهم من كل اتجاه. كانوا يقرأون هذا القرآن، ويتغنون بآيات الحرية وحقوق الإنسان آناء الليل وأطراف النهار؛ أملا في الانعتاق والخلاص من التألهات الظالمة المفسدة في الأرض.
الدرس الحضاري من قصة فرعون
لقد كان غير واقعي تصريح فرعون، الذي نفى فيه علمه بإله للناس غيره، بالنظر إلى عجزه عن حيازة أمر الكينونة التي تقول للشيء كن فيكون.. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، إذ كان مثل ذلك الادعاء محتاجا إلى قوة داعمة ترفعه عن مستوى الضعف والاضطراب، ولم يكن ثمة ما يدعم موقعه الإلهي المهزوز سوى أن يدعي الربوبية. ولقد كان لهذا الادعاء مقتضياته بأن يضيق على بعض الناس في أرزاقهم ويوسع على البعض الآخر بحسب درجات الولاء والتفاني في خدمة هواه التسلطي، وملاحقة الخارجين على الشرعية الدستورية، التي ضمن مادتها الأولى أن فرعون هو إله الناس وربهم الأعلى!
وهذا يعني أن المذكرة التفسيرية لهذا الدستور الجائر تضمنت مواجهة أي حركة نخبوية، أو أي اتجاه إلى اعتناق أي أيديولوجية أخرى مخالفة لعقيدة التأليه، إنما هو عمل من شأنه ازدراء نظام الحكم وتعطيل أحكام الدستور، والخروج على الشرعية وتهديد السلام الاجتماعي: {وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} [غافر:26].
ولقد كان من توابع ذلك الموقف الإقصائي التلويح بإنزال أشد صنوف العذاب والعقاب على كل من يتعاطف مع موسى أو يميل إليه أو يدعو له أو ينوه به. ذلك، ولم يكن ثمة عقوبة أشد من سلب الإنسان حريته، وحرمانه حقوقه في الحصول على المعلومات والحقائق مجردة بلا مزايدات أو مداخلات أو مداهنات. فكان من أبشع ما ارتكبه فرعون حجب الحقائق عن الناس، أو تغييبها، أو تزييفها، وهي جريمة لا تغتفر. وأشد من ذلك جرما شحن عقلية العامة بزيوف وأراجيف وأكاذيب وإملاءات تخدم مركزية السلطة والثروة: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:53-56].
لفتة مبدئية
كان فرعون بطبيعته نموذجا إملائيا متحكما بغير جدارة، قويا بضعف الناس، قهارا بانقهارهم له، جبارا بإرادتهم المتداعية لجبروته. وعلى الرغم من إملاءاته المتناقضة التي تدل على خفة عقله وبداوة رأيه وتهافت حجته، بل تكشف عن ضعف شخصيته ضعفا يقدح في أهليته للحكم والملك، فإنه وجد من ينقاد إلى إملاءاته انقياد السوائم، ويعتاد تحكماته اعتياد الهوائم، حتى جاء موسى الذي يعرف خبايا البيت الفرعوني، ويعلم من حقائق الحياة الخاصة لفرعون ما لم يحط بها العامة والرعاع، فلم يلبث موسى في أهل مدين سنينا حتى رجح لديه خيار العودة وتبني مسار المقاومة والتصدي، بمشاركة أخيه، لمشروع الهيمنة والاستكبار الفرعوني؛ استخلاصا لقومه من نير الاستضعاف والهوان. وهنا ينبغي ألا ننسى تأثر موسى بالفكر الإصلاحي عند شعيب النبي عليهما السلام فترة خدمته، ولقد كانت السنوات العشر كافية لتشبع موسى بتلك الخبرة النبوية في الإصلاح والتأهيل الاجتماعي ومقاومة الفساد.
وبعد عودته إلى مصر، خاض موسى وهارون، في مقابل ذلك الهدف، ملاحم هائلة، ودورات نضالية لم تفتر أو تهدأ أو تهادن حتى تحقق لهما ما أراد الله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6] ، ثم ما أراداه هما للناس من حرية وكرامة وصلاح.. فهلك فرعون ومن معه من الظالمين أجمعين: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55].
بينات على طريق الخلاص
ولقد اختلطت هذه الملحمة بمجموعة من الملابسات، نلقي مزيدا من الأضواء حولها، عسى أن تلوح منها عبرة لكل سالك سبيل الإصلاح:
أولا: معية الله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:45-46]. وهذه المعية هي التي عكست معنى التعبئة الإيمانية؛ ثقة بالله ويقينا بصلاحية موقفهما وعدالة قضيتهما في مواجهة صنمية المتألهين وتبجحات مدعي الربوبية.. تلك الفرعونية التي استصحبت كل ما لديها من قوة جائرة، وقدرة بائرة، وعزوة موتورة، وتعويلات وسائلية واهية لا تغني من الحق شيئا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:36-37].
ثانيا: معية المؤمنين؛ وهم السند «اللوجستي» المتخفي وراء الكواليس، إذ كشف القرآن الكريم عن نموذجين من هذا السند، هما: امرأة فرعون، والرجل الذي جاء من أقصى المدينة ناصحا إياه بالخروج أول مرة.. وغيرهما من الصداقات التي تكونت بين موسى والعاملين في دهاليز القصر. وهؤلاء في اللحظة المناسبة قد زودوا موسى وهارون بمعلومات أسهمت في بلورة مشروع الخلاص حتى إتمامه.
ثالثا: لم تكن نجاة قوم موسى هي نهاية التحدي، إذ ظهرت لموسى وهارون نتوءات تمردية، تمثلت في نفوس ضعيفة كانت ترقب الإنجاز بضيق صدر حاقد، وقلب منقبض حاسد. وهي نفوس لم تفقد إيمانها جملة، لكن كبر عليها أن ترى الحق محمولا على غير أعناقها، ظاهرا بغير يديها. ذلك على الرغم من أنها في أتون المواجهة الإيمانية مع فرعون كانت مختبئة خائفة وجلة، ترقب الملحمة، وهي ملتبدة خلف جدران الحلبات. هذه النفوس هي التي انخنست عن المواجهة كلما افترض واقع التدافع الحسم والحزم: إما بدفع تكاليف وتقديم تضحيات، وإما بموقف شعاري واضح. فالسامري لم يكن كافرا بطبيعته، لكنه لما رأى في صرف الناس عن موسى وهارون شفاء لعليله وإطفاء لغليله.. لم يتورع عن صناعة الأصنام وصياغة الأوهام، حتى ولو كانت النتيجة المتوقعة وقوع الناس تحت طائلة الشرك جحودا بالذي نجاهم من فرعون وأطلقهم في فضاء الحرية يرفلون في نعيمها كراما آمنين. لكنه لم يتردد عن الغواية تلبية لنوازعه الغريرة الشريرة هو ومن كانوا على شاكلته في القوم.
وإن المتأمل في مسيرة بني إسرائيل لا يستبعد وجود عناصر أخرى مؤيدة للسامري في صفوف بني إسرائيل، فمثل هؤلاء أشبه ما يكونون بالكائنات الأميبية التي لا تنفك حياتها عن نظام التشبث الطفيلي، الذي يتغذى دوما من خلاصة عصب الناس ودمائهم دون طائل من ورائها إلا ضعف المجتمع وهزاله، بل إن منهم من يتحول إلى طبيعة المخلوقات الكربونية التي لا تنبعث منها إلا الغازات والأبخرة السامة. هؤلاء هم الذين خذلوا موسى عن بلوغ مأواهم وملاذهم الآمن بدخول القرية: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى . أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:21-22]، فاستحبوا التيه في بداوات الأرض على النزول عند أمر الله بالدخول موعودين بالنصر والتمكين.
وهذه حال تبدو معقولة بالنظر إلى طول الأمد عليهم في مستنقعات القهر والمذلة والنكال.. فأمر الحياة الحرة الكريمة لا يعنيهم إذا كلفهم أدنى تكاليف، فلم يستجيبوا لنصائح إخوانهم، بل تجاهلوهم، مخاطبين موسى بخطاب يفيد ضرورة كفه عن هذا الأمر -قولا واحدا- ومن دون حاجة لوعظ المتحمسين معه عليه السلام: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:23-24] .
رابعا: بينما كان موسى عليه السلام منهمكا في مواساة قومه، حاثا إياهم على التصبر والاستعانة بالله في مواجهة الأزمات ففي أعقابها فرج الانعتاق والتمكين: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:128-129]. وإذا كان من حق المظلومين أو المبتلين التعبير عن آلامهم ومظالمهم بصورة أو بأخرى، فإن الأولى التعبير بصورة تليق بهم بين يدي نبي مرسل يعظهم بالصبر على الابتلاء، ويعدهم بالخلاص والتمكين، لكن النفس الإنسانية جزوعة بطبيعتها، غير مدركة لحكم الابتلاءات وأسرار الامتحانات التي مثلما تطوي الألم فإنها تبعث الأمل وتبشر الصابرين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155-156]. الصابرون الذين يفهمون الاسترجاع تراجعا عما لا يليق، ورجوعا إلى الله، ومراجعة مع النفس.
ولذلك، كان من الضروري أن تراجع الأمة المسلمة مواقفها بعد كل دورة حضارية وأخرى في ضوء الدروس، سواء التي تناولها القرآن أو تلك التي تعيد إنتاج نفسها عبرا مستفادة، مؤكدة صدق الوحي وحيوية صلاحيته التي تمكن الأمة من استمرارية تجديد عضويتها الفاعلة في الجماعة الإنسانية، وذلك من خلال ترديد عهدتها الاستخلافية على نحو يعكس مسؤولياتها والتزاماتها العقدية تجاه هذا الكون بما فيه ومن فيه.. {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. ومن ثم، تتهيأ لها أسباب خلاصها وحريتها، وتتوافر لها سوانح نهضتها إلى استئناف دورة جديدة من الفعل الحضاري الرشيد.
عطية الويشي
باحث دراسات إسلامية بوزارة الأوقاف الكويتية
- التصنيف: