شجاعة أم
فكل يوم يمرفي حياة الأم تزداد النفس تعلقا بطفلها، وتزداد الرابطة قوة، ويحتل مساحة أكبر في القلب، ويطول الأمل ويكون المرء أجبن ما يكون في مواجهة الموت..
من خطبة على الموقع للشيخ الدكتور عائض القرني بعنوان (جيل لن يتكرر) وبدأ – حفظه الله – بقصة توبة الغامدية، ثم علق على ذلك بقوله: (لقد ارتفع الإيمان عند أولئك العصاة إلى درجة لايصل إليها أبرارنا وأخيارنا هذا اليوم، إن عصاة ذلك المجتمع المثالي والجيل الراشد أعظم إيمانا من طائعينا وعبادنا وزهادنا).
ولم لا؟ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم توبتها بقوله:
«الراوي: عمران بن الحصين . (صحيح مسلم؛ رقم: [1696]).
»فهي التي قدمت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسها ليطهرها من إثم الزنا بإقامة الحد عليها، والحد ليس ضربا ولا جلدا، وإنما هو الرجم حتى الموت، يعني عذابا لا تدري أيطول أم يقصر، لكن الرغبة في التطهر كانت أقوى من كل خوف ومن كل تردد، فالشعور الوحيد المسيطرعليها هو الرهبة لله والخوف منه، والشوق لملاقاته نقية من الذنب بالرغم من كل محاولات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثنيها عن اعترافها بأي شبهة، لكنها أصرت حتى أنه أرجأها لما بعد الولادة، وبمجرد وضع مولودها بادرت بالذهاب إليه مرة أخرى لتضع عن كاهلها عبء ذلك الوزر، فأرجأها مرة ثانية حتى تفطمه.
فما أن فطمته حتى سارعت بالذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملة طفلها وفي يده كسرة خبز وكل هاجسها التطهر التطهر..
أما الخاطرة التي استوقفتني هو إصرار تلك المرأة على أن يقام عليها حد يفضي إلى الموت في لحظة هي أضعف اللحظات في حياة أي أنثى بما فيها أنثى الحيوان والطير، وهي أن تترك طفلها وهو لا يزال صغيرا؛ وارتباطهما العاطفي يكون في أوجه، فهو لصيق بها ليل نهار؛ يرضع منها الحب والحنان مع اللبن؛ وهي تملأ عينيها من سحر جماله، وأذنها من عذوبة صوته. فهذه السن هي أروع سن في مرحلة الطفولة، حيث البراءة؛ وفي نفس الوقت بعض من المكراللذيذ كذلك، وبداية التعبير عن الذات والمتطلبات بالقول والحركة، والنطق بطريف الكلمات والعبارا ت، والقيام بالأنشطة التي تملأ المكان مرحا وحياة. وفي أيامنا هذه نجد أروع اللحظات المسجلة بالصوت والصورة في حياة أي أسرة إنما هي للأطفال في تلك السن.
هذه السن التي تمثل الأم فيها للطفل كل حياته، فهي الوحيدة التي تتحمل كل أعبائه وتقوم برعايته، وتلعب الدور الأقرب لأن يكون الأوحد. هذه السن التي تتضاعف لهفة الأم علي وليدها فلا تستطيع تحمل غيابه عنها يوما؛ فهي تفتقده إذا غاب عنها ساعات، ويؤرق ليلها إذا بات بعيدا عنها، وتفقد توازنها إذا فارقها أوفارقته أياماٍ، ويذهب لبها تماما إذا ضاع منها خوفاعليه من أن يلي أمره من لا يتقي الله فيه.
فالمرأة الطبيعية إذا أنجبت فلا يملك عقلها قدر ما يملكه هذا الكائن الضعيف الجميل، ولا غريزة لديها تعادل غريزة الأمومة، وتصبح أكثر تمسكا بالحياة لتظل ترعاه وتمنحه الحب والدفء والحماية حتى يكبر. وتذكرت صديقتي – رحمها الله – عندما كانت تصارع المرض في آخر أيامها، ولم يكن يشغل بالها من أمور الدنيا إلا ذلك الصغير الذي تجاوز سن الفطام بقليل.
فكل يوم يمرفي حياة الأم تزداد النفس تعلقا، وتزداد الرابطة قوة، ويحتل مساحة أكبر في القلب، ويطول الأمل ويكون المرء أجبن ما يكون في مواجهة الموت...
لكن الغامدية تركت كل ذلك وراء ظهرها، واستودعته الله، فربط الله على قلبها، فتقدمت بشجاعة لتدفع ثمن خطيئتها في الدنيا خشية أن تدفعه أضعافا مضاعفة في الآخرة، فعذاب الدنيا يهون برحمة من الرب؛ لكن عذاب الآخرة يعظم بغضب الرب؛ حتى أن المعصومين عليهم السلام يقولون يا رب سلم يارب سلم.
- التصنيف:
- المصدر:
Elham Hussein
منذ