أن يكلمك ربك
الفارق الرئيس بيننا وبين سيدنا أبى بكر الصديق رضي الله عنه ومسارعته بالإجابة والعفو، والفارق الرئيس بيننا وبين سيدنا أبي الدحداح الذي تخلى عن ثروته المتمثلة في حديقته الغناء، امتثالاً لآية من كتاب الله، والفارق الرئيس بيننا وبين الفضيل بين عياض الذي تغيرت حياته بالكامل بعد أن سمع النداء، وأجاب واستجاب، إنه الفارق الرئيس بيننا أو بين كثير منا وبين هؤلاء..
- "بلى واللّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا".
دائما ما كانت هذه الجملة التي رويت عن الصديق أبو بكر رضي الله عنه محل تفضيل من الدعاة والمصلحين، والمربين حين يعظون الناس في شأن العفو والصفح والتغافر، رجل أنفق عليه الصديق أعوامًا، وقيل أنه قد تربى في حجره يتيمًا ثم يكون المقابل أن يخوض في عرض ابنته وزوجة نبيه مع من خاضوا في الإفك المبين، ومع ذلك يتناسى الصديق كل هذا ليعود إلى عطائه والإغداق على مسطح من جديد، ويعفو..
أمر مذهل يقف المرء طويلاً أمامه مشدوهًا متأملاً، كيف فعلها؟!
كيف استطاع تحملها وحمل نفسه عليها، وإنها لكبيرة إلا على من وفقه الله لاحتمالها؟!
كيف قابل هذه الإساءة البشعة بإحسان، فضلاً عن صفح وغفران؟!
الإجابة عن تلك الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن تكمن في تلك العبارة التي صدرت بها المقال، بل في الحقيقة تكمن في أولى كلمات تلك العبارة، كلمة: بلى..
إنها كلمة تستعمل كجواب لاستفهام دخل على نفي، فتفيد إبطال هذا النفي وإثبات المعنى، وهي هنا إجابة السؤال الرباني الذي نزل به الوحي مخاطبًا كل من له حق يمكن أن يصفح عنه، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}؟! [النور من الآية:22]، طبعا نحب.. ومن لا يحب؟
ربما لا أكون مبالغًا لو قلت بيقين جازم أنني لا أتصور مسلمًا صحيح الإسلام تام الأهلية يعي معنى هذا السؤال، ثم يملك أن يجيب بإجابة غير تلك التي أجاب بها الصديق رضي الله عنه، وهل يتصور أحد أن تكون إجابة مسلم عن هذا السؤال: نعم يا رب لا نحب أن تغفر لنا؟! هل يتخيل مخلوق أن يجرؤ مؤمن بالله واليوم الآخر على رفض المغفرة؟! أعتقد أن ذلك مستحيل عقلاً وشرعًا.
إذًا فما السبب الذي يؤدي لهذا البون الشاسع بين رد فعل عموم المسلمين تجاه تلك الآية ومثيلاتها، وبين رد فعل الصديق، أعتقد أنه وبغض النظر عن فحوى السؤال وقيمة المغفرة فإن مناط ما فعله الصديق يكمن في أنه تفاعل في كونه تعامل مع السؤال القرآني على أنه موجه له، على أنه مخاطب به، وهنا أجاب..
وكانت الإجابة متوقعة والمنطقية: "بلى وَاللَّه إِنِّي لَأُحِبّ أَنْ يَغْفِر اللَّه لِي"! ثم أعاد إِلَى مِسْطَح نَفَقَته الَّتِي كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ وَقَالَ: "وَاللَّه لَا أَنْزِعهَا مِنْهُ أَبَدًا"، وهكذا دائمًا كانت ردود الأفعال عند أولئك الذين أدركوا تلك الحقيقة وعاشوا بتلك القيمة، حقيقة أن الله يتكلم وقيمة أنهم مخاطبون بكلامه، من يدرك ذلك لا بد أن يتفاعل وأن يجيب ويستجيب..
حين نودي آدم عليه السلام وقيل له ولزوجه: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف من الآية:22]، كان التفاعل مباشرًا والإجابة سريعة وواضحة محددة: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
ولما نودي موسى عليه السلام وسئل عما في يمينه أجاب، واستفاض في الإجابة: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ} [طه:18]، كان من الممكن أن يكتفي بأول كلمتين في الإجابة: {هِيَ عَصَايَ}، لكنها المناجاة والتفاعل مع كلام الملك، وحين يسأل المسيح عليه السلام عن اتخاذ الناس له ولأمه إلهين من دون الله سيجيب قائلاً: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة من الآية:116].
ولما سمع الصحابي أبو الدحداح رضي الله عنه أن الله يسأل: من ذا الذي يقرضه قرضًا حسنًا، أجاب فورًا بإجابة عملية وتصدق ببستانه البهيج صائحًا: "البستان قرض لله البستان قرض لله"، ولما سمعت الجن سؤال الرحمن المتكرر في سورته [الرحمن]: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} أجابت من فورها: "لا بشيء من آلائك نكذب ربنا ولك الحمد"، وبعد أن ذكر الله بشاعة الخمر والميسر ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة من الآية:91]، صاح المجيبون: "انتهينا يا رب انتهينا يا رب"، وسالت الخمر في شوارع المدينة أنهارًا، وهكذا كان التفاعل مع قول الله {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد من الآية:16].
ألم يأن؟ سؤال لا بد له من إجابة، ولا تصح له إلا إجابة واحدة، فلا يستطيع عاقل لو فكر قليلاً إلا أن يجيب ملك الملوك قائلاً بالقول والعمل: "بلى قد آن، قد آن"، فقط يحتاج أن يستشعر أن السؤال موجه إليه، وستأتي الإجابة بإذن الله حين وقعت تلك الكلمات من قلب الفضيل بن عياض، موقع التجاوب والشعور بالمخاطبة، كانت الإجابة وكان التغيير الشامل في حياته، وصاح معلنًا إياها: "بلى يا رب قد آن.. بلى يا رب قد آن".
وما فعله الصحابة حين سمعوا نفس الآية التي تفاعل معها الفضيل لم يكن بعيدًا عن رد فعله، فقد تفاعلوا هم كذلك مع الآية والسؤال الرباني المحكم، واعتبروه معتبة موجهة لهم، فقال بن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا ربنا إلا أربع سنوات، وقال ابن عباس "استبطأ الله قلوب المؤمنين فعاتبهم".
وروي أنهم كان بعضهم يعزي بعضًا بعد استشعارهم لخطورة ذلك السؤال، وقيمة تلك المعتبة والاستبطاء، هذه النماذج المتعددة لتفاعلات وتجاوبات مع سؤالات المولى عز وجل ونداءاته تعد غيضًا من فيض، نماذج لا تحصى كانت رد الفعل الطبيعي من أهل الفضل، الذين أدركوا ما يدركه العقلاء حين يُنَادَون أو يوجه إليهم الكلام فيجيبون ويستجيبون ويتفاعلون، وهذا ما فعله ويفعله من يدركون قيمة النداء الرباني، ويعون حقيقته ويستشعرون مخاطبتهم به، وذلك هو الفارق الرئيس بيننا وبينهم..
الفارق الرئيس بيننا وبين سيدنا أبى بكر الصديق رضي الله عنه ومسارعته بالإجابة والعفو، والفارق الرئيس بيننا وبين سيدنا أبي الدحداح الذي تخلى عن ثروته المتمثلة في حديقته الغناء، امتثالاً لآية من كتاب الله، والفارق الرئيس بيننا وبين الفضيل بين عياض الذي تغيرت حياته بالكامل بعد أن سمع النداء، وأجاب واستجاب، إنه الفارق الرئيس بيننا أو بين كثير منا وبين هؤلاء، الذي عطرت السطور السابقة بذكرهم، وغيرهم ممن لم يتسع لي المقام لأتشرف بذكرهم وقد أجابوا واستجابوا، الفارق أنهم تعاملوا مع القرآن على أنه كلام الله لهم، أنهم تفاعلوا مع القرآن ونظروا إليه نظرة سديدة دقيقة ظهر أثرها جليًا في ردود أفعالهم، التي ذكرت في السطور السابقة طرفًا يسيرًا منها، نظرة مفادها وخلاصة أثرها: أن الله يكلمنا..
هذه الآيات كلام الله لنا، ملك الملوك يخاطبنا نحن، هذه النداءات والسؤالات والأوامر والنواهي والتوجيهات موجهة لنا، لك ولي.. كيف إذاً لا أرد؟ كيف إذاً لا أتفاعل؟ وهل يسعني أن أعرض وألا أجيب ولا أستجيب؟ هذا هو الفارق المحوري بيننا وبينهم..
للأسف الشديد الحقيقة أننا كثيرًا ما نتعامل مع القرآن على أنه فقط كتاب شعائر تعبدية محضة، أو أنه وسيلة لتحصيل الحسنات وجمع الثواب في المواسم التعبدية وحسب، بينما ننسى أو نتغافل عن تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أنه كلام الله، أنه حبله الممدود طرفه بأيدينا كما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ربنا يتكلم..
لقد انصرف كثير من الناس عن الاستمتاع بالتعبد لله ومعاملته بهذه الصفة، والإحساس بآثارها وتدبر تجلياتها فكانوا كمن ظل يثبت عظمة وجلال كتاب، وينفق الأوقات على إثبات نسبته لصاحبه، ثم لم يجد الوقت لفتحه أو قراءته، أو كمن دُعي إلى وليمة فظل يتحدث عن جمالها وفخامتها دون أن يمد يده ليطعم منها ويتلذذ بطيباتها..! ولله المثل الأعلى.
إن صفة الكلام من أجمل الصفات التي تتعرف بها على الله جل وعلا، وتتقرب إليه بمعاملته بها واستشعار آثارها، ورغم أن حل كثير من مشكلاتك ومفاتح نفسك وتذكرة أوبتك قد تكمن في آية واحدة، في كلمة أو كلمات ربانية تقرأها، أو تسمعها فتشعر أنها موجهة لك أنت تنتشلك معانيها، تشفيك موعظتها، وتضىء توجيهاتها طريقك..
ورغم أنه كثيرًا ما يكون الحل في التذكير بالقرآن -وحسب- دون وسيط أو إضافة، أو تكلف أو كثير من كلام البلغاء ونظم الفصحاء، الذي ربما يكون له مواطن أخرى، رغم كل ذلك إلا أن قليلاً من ينتبه وقليلاً من يدرك هذه الحقيقة البسيطة النقية، حقيقة كونك في لحظة ما تحتاج إلى أن يُخلَّى بينك وبين كلام ربك مباشرة، يخاطب قلبك ويمس فؤادك وتهفو إليه روحك.
وقليل من المربين والموجهين من يعنون بتوجيه قلوب وعقول الناس لتلك القيمة والحقيقة، ويجعل كلام الله هو الأصل الذي تدور حوله عظاته وتذكراته ونصائحه وتوجيهاته، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق من الآية:45].
حاول تتعامل مع القرآن من هذا المنطلق، حاول أن تتفاعل معه.. أن تجيب عن سؤالاته، وأن تمتثل لأمره، وتنتهي عن نهيه، حاول استشعار أنك أنت المخاطب، أنت، نعم أنت..
القرآن كله يحتشد بالنداءات والسؤالات والأوامر والنواهي الموجهة لك أنت، كل كلمة يا عبادي أو يا أيها الذين آمنوا، أو يا أيها الناس تشملك أنت، الله ينادي ويدعو عباده، وأنا وأنت من عباده، يدعوك أنت ويدعوني أنا وهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه، يدعوك ليغفر لك من ذنوبك، يدعوك لدار السلام والجنة والمغفرة بإذنه، يدعوك لما يحييك ويناديك لما فيه خيرك.
كم امتلأ كتابه بالنداءات التي لم ترعها سمعك، كم مرة سمعت يا أيها الذين آمنوا ويا أيها الناس ويا عبادي،
نعم هذا أنت، أنت المنادَى وهو المنادِي، هل لا بد أن ترى اسمك مكان كل كلمة عبادي، أو الذين آمنوا أو الناس وسائر تلك الكلمات، التي تأتي بعد النداء لكي تشعر أنك أنت المخاطب والمنادى؟
لماذا لا تحاول أن تتجاوز الأسماء والألقاب وتغوص بقلبك في حقيقة المعنى، وتستمتع بشعور جديد، شعور أن ربك يناديك، يكلمك.. يسألك.. ويدعوك ليغفر لك، حاول وصدقني إن شاء الله ستشعر بفارق كبير، وستلمس بإذن الله تغيرًا واضحًا في علاقتك بالقرآن، تغيرًا للأفضل، فقط إذا ترسخت في نفسك تلك القيمة! قيمة أن الله يكلمك ويناديك ويسألك، فمتى تجيب؟
- التصنيف: