عندما تخدعك نفسك اللوامة (Cognitive Dissonance)

منذ 2014-10-16

الإنسان في أحوال كثيرة لا يبحث عن الحق بقدر ما يبحث عن السلام الداخلي وراحة الضمير! وهذا يدفعه في الكثرة الكثيرة من الأحوال أن يشوه الواقع بطريقة ما، أو أن يزحزح مبادئه جزئيًا، أو أن يغيرها كليًا حتى يحصل على السلام الداخلي ويرتاح من لوم نفسه اللوامة..

النفس اللوامة في الإنسان شديدة التعقيد في عملها، فهي ليست مجرد نفس تلوم الإنسان كي يصحح أخطاءه، بل هي تسعى دائمًا لعمل مصالحة بين الإنسان وضميره، لذا فليس من الشرط أن تصحح سلوك الإنسان حتى يتوافق مع قيمه ومبادئه، بل يمكن أن تفعل العكس تمامًا وذلك عندما تعقد النفس اللوامة صفقة مع النفس الأمارة بالسوء أو مع الشيطان!

وكي أوضح هذا الأمر سأضرب مثالاً من واقعنا:
القيمة أو المبدأ: القتل فعل قبيح.

الواقع:
عندي رغبة في قتل إنسان برئ بسبب عاطفة ضده، أو أن الفريق الذي أتعاطف له قتل إنسانا بريئًا بالفعل!
الآن هناك انفصال وتنافر نفسي ومعرفي بين (القيمة أو المبدأ) و(الواقع)، وهذا ينشأ منه عدم ارتياح داخلي نتيجة عمل النفس اللوامة التي تلوم الإنسان عندما تكون مبادؤه متناقضة مع أفعاله أو أقواله، أو الواقع الذي يؤيده نتيجة العاطفة.

عمل النفس اللوامة:
تلجأ النفس اللوامة هنا إلى مجموعة من الأساليب كي تقلل اللوم، وهذه الأساليب تتفق كلها في أنها تُنشئ سلام داخلي (أو مصالحة داخلية) عند الإنسان، من هذه الأساليب على سبيل المثال لا الحصر..

1- تغيير الواقع حتى ينسجم مع مبادئك وذلك بالرجوع عن نيتك في القتل والتوبة.. وهذا هو العمل المحمود للنفس اللوامة.
2- تغيير (رؤيتك) للواقع، حتى تنسجم هذه الرؤية -التي قد لا تمت للحقيقة بصلة- مع مبادئك، وذلك مثلاً بإقناع نفسك مثلاً أن هذا الإنسان يستحق القتل، والعمل على انتقاء مصادر المعلومات التي تؤكد قناعتك الجديدة -انحياز الدعم Confirmation Bias- التي تتواءم مع مبادئك ولا تصطدم معها! وهذا الأسلوب يقع فيه معظم البشر بلا مبالغة!

3- تغيير الواقع على المستوى النفسي فقط حتى ينسجم مع مبادئك! وذلك بإنكار ما حدث وعدم تصديقه (Denial) وانتقاء مصادر المعلومات التي تؤيد هذا الإنكار، مثل المصادر التي تزعم أن ما حدث هو إشاعات وليس حقيقة، وأرى أن هذا الأسلوب يتزلق فيه أناس كثيرون، بل من الممكن أن يكون مدخلاً للاضطرابات النفسية.

4- البحث عن الرخص والاستثناءات في تطبيق مبادئك، حتى تنسجم مع الواقع، وذلك بأن تقنع نفسك مثلاً أنك في حالة اضطرار لقتله لدفاعك عن نفسك، مع أنه كانت توجد طريقة أخرى للدفاع عن النفس! ثم طمئنة ضميرك بأن موقفك سليم، بأن تبحث عن مصادر المعلومات التي تفيد بأن القتل في حالة الدفاع عن النفس لا أثم عليه، حتى لو كان يوجد مخرج غير القتل، إن كنت مثلاً خائفًا! وأزعم أن هذا الأسلوب يقع فيه الكثير من البشر!

5- أن تغير مبادئك ذاتها حتى تنسجم مع الواقع، وهو أن تتبنى قناعة جديدة أن القتل لا بأس به من الأصل، إن كانت هناك مصلحة مرجوة، وأن تجريمه لا أصل له وليس منطقيًا، ويمكن لمن يمتلك بعض الذكاء أن يفلسف الأمر ويمنطقه (Rationalization) كتالي مثلاً: "فإن كنت مثلاً تقتل النباتات باقتلاعها من جذورها لتأكلها، فلماذا لا تقتل إنسانًا إن كانت هناك مصلحة مرجوة؟! وأرى أن هذا الأسلوب غير شائع وإن كان موجودًا!

الاستنتاج:
الإنسان في أحوال كثيرة لا يبحث عن الحق بقدر ما يبحث عن السلام الداخلي وراحة الضمير! وهذا يدفعه في الكثرة الكثيرة من الأحوال أن يشوه الواقع بطريقة ما، أو أن يزحزح مبادئه جزئيًا، أو أن يغيرها كليًا حتى يحصل على السلام الداخلي، ويرتاح من لوم نفسه اللوامة

حقًا، إنها من عجائب البشر تلك (النفس اللوامة)، والتي ستنكشف إن كانت على الحق أم أنها خداعة (يوم القيامة) والتي بدورها ينكرها أو يتناساها على الأقل البعض حتى يصلون لسلام نفسي داخلي! وستنفضح يومها كل المعاذير والحجج التي ليس لها أصل، والتي كان عقله بصيرًا بها إلا أنه جحد عقله!

تدبروا معي هذه الآيات الكريمات من سورة القيامة:
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ . أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ . بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ . يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ . فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ . وَخَسَفَ الْقَمَرُ . وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ . يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ . كَلَّا لَا وَزَرَ . إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ . يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ . بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:1-15]. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أحمد كمال قاسم

كاتب إسلامي

  • 9
  • 0
  • 8,603

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً