وترحل الأيام
يا نفسي طويتي آخر وريقات العام وترحلت تلك الأيام واستقبلتِ عامًا جديدًا وأيامًا بيضاء لم تدنس بعد وأنت لا تعلمي أتدركينها أم لا!! أم أنها سترحل أيامها بلا زاد كما هي سابقتها؟!
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أثق واستعين..
قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة:36]. إن الله عز وجل جعل هذا الزمن مرتبًا على شهور وأيام وعلى سنين وأعوام هذه الأيام والليالي مراحل يقطعها الخلق مرحلة مرحلة إلى الدار الآخرة إلى دار القرار إلى الدار الأبدية إما إلى جنة وإما إلى نار فهذه الأيام مراحل نرحل منها من يوم إلى آخر حتى ننتهي إلى آخر سفرنا إلى الله عز وجل فطوبى لعبد شغلها بالطاعات واجتناب المعاصي، وطوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال فاستدل بذلك على مالِ الله فيها من الحكمة البالغة والأسرار.
وإننا سنودع عامًا كاملا -ثلاث مائة وستون يومًا- وقد كنا نتطلع إلى آخر هذا العام تطلع البعيد فإذا بنا وقد جاء كلمح البصر فما ندري أذلك العام حجة لنا أم حجة علينا، لسنا ندري أحسناته غلبت فنرجو رحمة الله أم سيئاتها رجحة لا سمح الله فالويل لنا من الله، فبغروب شمس ذلك اليوم ستنطوي معها صحيفة عام كامل لكي تكون محفوظة عند الله تعالى يلقاها العبد يوم يلقاها نصب عينيه: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13، 14].
فإذا علمنا أن الله جل جلاله رتب هذا الزمان على شهور وأيام، وأن الأيام تذوي يومًا يومًا، أدركنا أن العمر ينقضي شيئًا فشيئًا، والحياة تسير بنا لا تقف لحظة، فما أن تأذن شمس يوم بالمغيب حتى تشرق شمس يوم جديد، وقسّم بحكمته ورحمته هذه الأيام والشهور إلى موسم فما يكاد ينتهي موسم حتى يأتي موسم بعده فما أن انتهى شهر رمضان المبارك الذي فيه ليلة هي خير من ألف شهر حتى هل هلال شوال الذي شرع فيه صيام ست من شوال التي تعادل بصيامها الدهر، وبعدها هلت علينا أشهر الحج والتي فيها عشرة ذي الحجة التي هي أفضل أيام السنة والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها، وفي تلك الأيام يوم عرفة الذي تباهي الملائكة بعباد الرحمن ويخنس فيه الشيطان وصيامه لغير الحاج يكفر سنة مضت وسنة مقبلة، ثم تدنينا الأيام من رحيل عام هجري و مع طي صفحة ذلك العام بأكمله إلا ويمتن الله على عباده بشهر الله الحرام افتتاحًا لعام هجري جديد وهو شهر من الأشهر الحرم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام بعد رمضان، الشهر الذي تدعونه المحرم وقد خص اليوم العاشر بالفضل وحث على صيام يوم قبله أو بعده مخالفة لليهود فقال: « » فصيام يوم عاشوراء يكفر سنة مضت وانتهت أودعنا فيها ما لا نعلم لكنه محصي علينا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.. فانظروا إلى رحمة الله في عباده حيث هيأ لهم مواسم الخيرات وأعطاهم فرصًا لاستدراك ما فات..
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل ولتكن نيته في الخير قائمة".
ومع إطلالة عام جديد وأفول نجم عام مضى لا بد للمسلم الفطن أن يقف مع نفسه وقفات يتأمل فيها ويتذكر..
فيا أيها الكرام:
كم تمر علينا الأعوام والحال هي هي!!
لا يتغير ولا يتبدل عمّا هو فيه من غفلة وقسوة في القلب ومعاصي بلغت عنان السماء، أوامر الرحمن معطلة؟؟؟ وأوامر الشيطان تنفذ؟؟؟ الحسنات تجد وحشة والسيئات آمنة مطمئنة؟؟!!
انشغل الناس بالمعاصي فإذا كان العام الهجري الجديد قالوا: هذا هو العام الهجري الجديد، ولكن: أين الجديد من أفعالنا؟ أين الجديد من أقوالنا؟ ألا يوجد فينا قلب يقظ يفكر فيما مضى من العمر وانصرام من الساعات؟ قال ابن رجب رحمه الله: "العجب ممن عرف الله ثم عصاه وعرف الشيطان ثم أطاعه".
فيا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم وغفلة..
يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا..
يا من يشاهد الآيات والعبر كلما مرت عليه الأعوام والشهور ويسمع الآيات ولا ينتفع بما سمع ولا بما يرى من عظائم الأمور..
يا من تفرح بنقص عمرك.. يا من......
يا من قطعت شهور العام لهوًا وغفلة *** ولم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجباً وافيت فيه بحقه *** ولا صمت شهر الصوم صومًا متممًا
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي *** مضى كنت قوامًا ولا كنت محرمًا
نعم أيها الأفاضل... طوينا سجلا الله أعلم بطيّاته.. مضينا مع الركب سائرين نقطع فيافي الأيام والشهور حتى انتهى من أعمارنا أعوامًا ولم ننتبه إلى حينما نصل إلى نهايتها عندما نرى الحقيقة ماثلة أمام أعيننا...
وترحل الأيام ومضى عام هجري كامل من أعمارنا ومضت قبله أعوامًا..
وترحل الأيام وتمضي.. حاملة سجل أوزارنا وحسناتنا...
وترحل الأيام وتمضي.. ونحن على أبواب التمني واقفون.. وعلى الأماني عاكفون... وفي الآمال حالمون.. وفي الملذات غارقون..
وفي كل عام يجد نعد أنفسنا بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي علينا الأيام وترحل وتنطوي الساعات وحالنا لم يتغير إلى الأصلح فنبوء بالخيبة والخسران ثم لا نفلح ولا ننجح..
رحلت الأيام... فهل لنا من عودة صادقة مع النفس فنعلي الهمم ونشعل العزم لنغتم فرصة العمر بالمبادرة إلى الطاعات ودوام المحاسبة الصادقة مع النفس..
فالمحاسبة حقّ نفسك عليك ففك أغلالها وقيودها كل ليلة تكن من الرابحين، وألجمها لجام الخير تكن من الفائزين، وألبسها لباس التقوى تكن من المفلحين، وإلا كنت من الخاسرين، فالتاجر يتمنى لو زاد من وقته ليزيد من تجارته، وأنت غني بوقتك تاجر بأعمالك، فطيب تجارتك بحسن أعمالك واغتنم أوقاتك بثمرة أفعالك، وليكن لسيرة من مضى من سلفنا الصالح آفاق وأشواق فلا تكن منهم ببعيد فقد كانوا على أعمارهم وقافين وأشح على أوقاتهم من الشحيح أن يجود بدرهمه. يقول ابن القيم رحمه الله: "وهلاك القلب في إهمال محاسبة النفس وموافقتها واتباعها هواها".
وخذ رسالة الأيام التي يصوغها الزمن ويحملها مظروف الهدي النبوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
».وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم إنّي يوم جديد وعلى ما يعمل فيّ شهيد وأخرِّ ما شئت فلن يعود أبدا إليك. والزمن يمضي والأيام تسير في عجل. ابن آدم.. إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل.
أيها الكرام: إن مفارقة الليالي والساعات واللحظات عظة وذكرى مذكرة برب البريات ولذلك فإن المؤمن الصادق في إيمانه يقف تلك الساعة مليء بالحزن والشجاء لفراق يومه يودع يومًا كاملا وهو لا يدري أذلك اليوم حجة له أم حجة عليه. كان الضحاك رحمه الله إذا جاء مساء اليوم بكى بكاءً شديدًا قيل: لِما تبكي رحمك الله؟ قال: لستُ أدري أيومي هذا حجة عليّ أم حجة ليّ.
لذلك جعل الله تبارك وتعالى انقضاء الأيام والليالي ذكرى للمتذكرين وعبرة للمعتبرين تذكر العبد بالرحيل إلى رب العالمين وإن فراق السنين والأعوام أمر عزيز في قلب المؤمن وللعبد في انقضاء عامه وانصراف أيامه وقفة مع تلك الأيام وقفة مع تلك السنين والأعوام يسأل النفس ويحاسبها عن حقوق الله عز وجل ضيعها وعن واجبات له جلّ شأنه فرط فيها.
قد مضى العمرُ وفات *** يا أسيرَ الغفلات
حصّل الزادَ وبادِر *** مسرعًا قبلَ الفوات
فإلى كَم ذا التعامي *** عن أمورٍ واضحات
وإلى كم أنت غارق *** في بحارِ الظلمات
فاغتنم العمر وبادر *** بالتُقى قبل الممات
وأنب وارجع وأقلع *** من عظيم السيئات
واطلب الغفران ممن *** تُرتجى منه الهبات
وختامًا: إليكِ أيتها الحاضرة بين جنبي الماضية في سراديب الحياة..
إليك أيتها القابعة في ذاتي المترحلة خلف تضاريس الهوى..
عبثًا حاولتِ الوصول إلى مبتغاكِ..
عبثا استجدي رضاك..
تأخذكِ أمواج الفتن، والمرساة في يديك!!!
ويحكِ.. إن الجذور الضاربة في الأرض قد تذبل إذا أبدلت نبعها الصافي الزلال بما أحاطها من أسن الشبهات والشهوات..
فحسبُك عبثًا أيتها النفس.. وكفاك ابتعادًا وتوغلا في المتاهات.. فذاك الذي تتبعين إنما هو نعيق شيطان مارد.. أراد بك الغرر.. يصيح بك.. الطريق ويحك طويله.. الهدف أمامك بعيد.
أيتها النفس.. عودي لا تخدعنّك بهارج الدنيا فكل هذا الذي يتألق في عينيك نوره إنما هو نار وجمر سرعان ما يتوقد عليك لهيبًا وتهلكي في لظاه. ألم تكوني قد أخذتِ العهود والمواثيق أن لا يحد من عزمك ولا يعيق مسيرك مصاعب متحدره وأشواك مرتكزه.
ما بالك الآن تتباطئين..!!! معرّضة نفسك لمجال الهوى والملذات..
أيتها النفس: كيف أكلمك وعما أحدثك؟ لا أراك إلا مدبرة عني لاهية عن حديثي فاحفظي عني:
في ظلم طوفان وفي استبداد تيار *** والموج يذكي الموج إيذانًا بإعصارِ
فتنٌ كليلٍ مظلمٍ حبلى سحائبه *** فتمخضت دهرًا لتنجب شر مدرارِ
صيرت صوت الحق أخشابا وأشرعة *** وصنعت منها الفلك إنقاذا لأحرارِ
ألقيتُ في مرسى الهوى مرساتي الحيرى *** ورميت عن ظهري عصا نقلي وتسياري
فقد أن الأوان وأقرعت أجراس العودة بعد أن انكشف لك الحال.. إلى الله عودي وتنبهي يا نفسي... نعم عودي قبل أن يدركك الطوفان فتغرقي دون أن تجدي لك مجدافًا أو حتى طوق إنقاذ ولا معين من صحب ورفاق..
يا نفسي طويتي آخر وريقات العام وترحلت تلك الأيام واستقبلتِ عامًا جديدًا وأيامًا بيضاء لم تدنس بعد وأنت لا تعلمي أتدركينها أم لا!! أم أنها سترحل أيامها بلا زاد كما هي سابقتها؟!
فما هو شعورك حينما طويتِ بيمناك آخر ورقة من التقويم الهجري؟ إنه والله شعور بالمسؤولية العظيمة أمام الله عز وجل فقد أمد لك في عمرك فعليك الجد بالعمل فرسول الله صلى الله عليه وسلم: «
».فالمسلم الحق يعلم ثقل هذه المسؤولية العظيمة أمام الله.. لأنه يعلم أن إدراك عام واستقبال آخر نعمة عظيمة فالعمر أمانة فرض علينا إعماره بالتقوى والطاعات وبالمسارعة إلى اكتساب الحسنات والمبادرة إلى فعل الصالحات.. فالبدار البدار للتوبة والإنابة.. فدونك الوقت.. هو بين يديك فأمسكي بزمام أمرك وأبحري بسفينة الحق تشقين لجج الباطل شامخة لا تنثني لشيطان يريد لك الردى ولا لهوى يجرك للهاوية مصمة آذانك عن النفس الأمارة ودنيا غدارة. مخلفة ورائك الراحة والدعة.. مستقبلة جهد في راحة وتعب بسعادة.
فأعلنيها في الآفاق مدوية.. آن الأوان.. قبل أن ترحل أيام عمري لتوبة صادقة نصوحة.. وعودة إلى رب يفرح بإقبال المذعن الخائف.. فيا نفسي هنيئا لك.. فإنما هو شبر بذراع وذراع بباع ومشي بهرولة.. فاستقبلي أيامك الجديدة بنفس بيضاء كبياض الثلج، وروح سماوية علوية تواقة إلى الصعود على سلالم الجنان برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ضحى الغتم
- التصنيف:
- المصدر: