الأُضحية بين المِلَّة والمَلَّة!
إننا لا نريد التضحية بالأولاد، وإنما فقط التضحية بالأنانية وحظوظ النفس والتعصب للرجال والأفكار، مما فرَّق الأمة وشتت شملها، وأذهب ريحها وأطمع فيها عدوَّها، فلنُسلِم لله تعالى ولْنَتلَّ حبين هذه كلها، ولننحرها نحر الشاة والبعير، لعل الله تعالى يُغير ما بنا كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ثم ما المعظَّم في هذه الأضحية؛ لحم مأكول أم دم مهراق؟! وكأن مِلَّة إبراهيم ليس فيها إلا اللحم، أو به تحوَّلت الأضحية من المِلَّة إلى المَلَّة!
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه، وبعد؛ فإن المسلمين ينتظرون عيد الأضحى المبارك كلَّ عام بفارغ الصبر، أفرادًا وعوائل، وأكبر وأخص ما يميزه عن غيره؛ الأضحية. وهي سنة تستحق أن يهتم بها المسلمون؛ لما فيها من أجر وثواب، وما فيها مِن شعار إسلاميٍّ ظاهر، بل إن بعض فقراء المسلمين لا يكادون يأكلون اللحم إلا في مناسبتها، لما يتصدق به المُضَحُّون.
بينما وأنت تنظر هاهنا وهاهنا؛ فإذا بك تجد كثيرًا من الأمة ليست بعيدة عن السنن فحسب، بل عن بعض مظاهر التوحيد.. بل فيها فِئامٌ لحقت بالمشركين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد الأوثان وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذَّابًا كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» (الألباني؛ صحيح الترمذي، رقم:[ 2219])، ومع ما هم فيه مِن البعد عن خالص التوحيد، وثابت السنة، وطّيِّب الأخلاق.. مع ذلك كلِّه ما زالوا يتهافتون على الأضحية.. سنة إبراهيم كما يسميها الكثيرون!
فكثيرٌ من المسلمين- والحمد لله- يقبلون على الأضحية اقتداء بالنبيين الكريمين محمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يبتغون بالتقرب إلى الله تعالى، ويحتسبون ما ينفقون عند الله تعالى... وهؤلاء نسأل الله تعالى أن يُكثرهم في الأمة ويبارك فيهم ويثبتهم على التوحيد والسنة، ولن ينقطعوا إلى قيام الساعة.. وعد رباني لا يُخلف..
وكثيرٌ من المسلمين يحدوهم للتسابق إلى شراء الأضحية نوع من التباهي، وبعضهم كما رأيناهم بأعيننا يذبحون عنزة، لكنه يُخفي ما يدل على أنها عنزة، ويُظهر (فريستها) للناس، ليظهر مع المُضحِّين بالكباش! وبعضهم يؤزُّهم نوع من الحرج أمام الجيران لئلَّا يقال: لم يُضحِّ فلان! وبعضٌ آخر: بضغطٍ دافعٍ من الأهل والأولاد، بل يصرِّح بعضهم بذلك، وكأنه يُعرب عن النية الأرجح التي تجعله يُضحِّي. وكلها نيَّات تقدح في كمال التقرب إلى الله وتعظيم الشعيرة لله سبحانه، والقيام بها لوجه الله تعالى كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» (متفق على صحته). فمن نوى منافسة الجيران، أو نوى ترضية الأهل والأولاد، أو نوى ما نوى، فله ما نوى، ومن نوى القربة والسنة فله أيضًا ما نوى.
ومع ذلك؛ لا نقول: هلك الناس، فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلَكُهم» (مسلم [2623])، وورد «أهلكَهم» بفتح الكاف وضمها. ففي المسلمين خيرٌ كثير، يعملون لله، ويُضَحُّون له سبحانه. وإنما المفارقة أن هؤلاء كلهم حين تسألهم عن الأضحية يجيبونك بأنها سنة إبراهيم الخليل، فكيف لا تستحق هذا التسابق والبذل وهذا الاهتمام البالغ، حتى إن البعض يستدين من أجلها.
وصنيعُ الناس هذا يدل على أمور؛ ما كان ينبغي لها أن تكون؛ منها تسطيح الدين، وضُعف التديُّن. ذلك أنَّك حين تُجيل بصَرَكَ في الناس ترى عجبًا من التنافس على هذه الأضحية بالوصف الذي ذكرنا، وكأنها ليست من الدين فحسب، بل كأنما هي الدين، أو ركن من أركانه، إذْ ترى يفعلُ ذلك مَن لا يصلي أصلا ولا يصوم، ولا يدفع زكاة أمواله، مستهينًا بأركان الإسلام.. تراه قاطعًا للرحم عاقا لوالديه، لا يصل والديه إلا في السنة بعدد شهورها، عقوق ما بعده عقوقٌ، لا يبالي أن يأكل من حلال أو حرام، لا حدود لبصره في محارم الله... ولو كان من وراء ذلك كلّه تعظيمُ شعيرة الله هذه تقوى الله؛ لكانت تسري إلى غيرها من شعائره التي هي أعظم، كأركان الإسلام، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. فلمَّا كانوا أهمَل لشعائرَ أعظم، دلَّ على أن ما وراء تعظيمهم لشعيرة الضحية ليست تقوى الله المطلوبة، ولا اتِّباع ملة إبراهيم عليه السلام.
ثم ما المعظَّم في هذه الأضحية؛ لحم مأكول أم دم مهراق؟! وكأن ملة إبراهيم ليس فيها إلا اللحم، أو به تحوَّلت الأضحية من المِلَّة إلى المَلَّة (1)!
وأقصد المَلة يفتح الميم ما كان يضعه الآباء والأمهات تحت الرماد أو في الجمر من الخبز واللحم ونحوه، حتى إذا نضج نفضوا عنه الرماد وأكلوه..
وأقصد بالمِلّة بكسر الميم الدين وملة الإسلام، وملة إبراهيم الحنيف عليه السلام..
إننا أُمِرنا باتِّباع إبراهيم في المِلَّةِ كلها لا في المَلَّةِ فحسب، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95]، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].
عجيب أن يكون رجلٌ بأمة، ولا تكون أمةٌ برجل! ذلك {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120-121]. كان أمة كاملة، فقام مقام أمة، ووحَّد توحيد أمة كاملة، وجاهد في الله جهاد أمة كاملة، وشكر لله شُكر أمة مجتمعة، فأين هذه الأمة الجمع من تلك الأمة الفرد؟ وأين اقتداء أمواج البشر من المسلمين برجل الأمة عليه السلام في المِلَّة، معشار ما يقتدون به في المَلَّة؟
لقد هدانا الله تعالى مِلة إبراهيم، ذلك الدِّين القيم، فما بالنا نزهد في هداية الله تعالى لنا، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161]، إنه لَمِن أعظم السَّفَه أن نرغب عن ملة هدانا الله تعالى إليها، ونختصره في شهوات النفس لا في مكاره النفوس، من امتثال التوحيد والدعوة إليه، ولو كانت دونه المنايا: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130]. لقد جاءت ملة إبراهيم بتوحيدٍ لله تعالى وإخلاص الدِّين له، وبولاءٍ لأوليائه وبراء من أعدائه ولو كانوا آباءً أو أبناءً، وبجهاد في الله وفي سبيل الله تعالى، في يُسرٍ وبِشر: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؛ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج:78].
إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل أن يكون صاحب أُضحية كان صاحب تَضحية، وما هذه الأُضحية إلا جزاء وفداء منَّ الله تعالى به عليه جزاء استسلامه لشريعة الله تعالى وتحاكمه إليها، حين أَمرتْهُ أن يذبح ابنه لله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:103- 107]، وإننا لا نريد من أنفسنا ولا من أمتنا أن تُضحي بأبنائها، بل ولا حتى برؤوس أموالها، بل لو ضحَّت بفضول طعامها وشرابها وكسائها لاغتنى فقراء الأمة، ولو ضحَّت بفضول نومها لأصبحت في مقدمة الأمم، ولو ضحَّت بشهواتها لاستقامت لها حياتها.
إننا لا نريد التضحية بالأولاد، وإنما فقط التضحية بالأنانية وحظوظ النفس والتعصب للرجال والأفكار، مما فرَّق الأمة وشتت شملها، وأذهب ريحها وأطمع فيها عدوَّها، فلنُسلِم لله تعالى ولْنَتلَّ حبين هذه كلها، ولننحرها نحر الشاة والبعير، لعل الله تعالى يُغير ما بنا كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وكأني بكثير من المسلمين اختصر المِلَّة في المَلَّة، لا أقول لا تُضحَّوا، وإنما أقول مزيدًا من التضحية في شُعَب الملة الأخرى اعتقادًا وقولًا وعملًا، وولاءً للمسلمين واهتمامًا بأمرهم واغتمامًا لرزاياهم، وبراءً من الكافرين وخَلعًا لولاياتهم وفضحًا لمخططاتهم ودفعًا لصولاتهم.. مع تحري الصواب والإخلاص والحكمة.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[الممتحنة:4].
وإلّا فآهٍ وواهٍ ويا أسفاه على أمة اكتفت من المِلَّة بالمَلَّة!
ـــــــــــــــــــــــ
1- في لسان العرب: والمَلَّة: الرَّماد الحارُّ والجمْر. وَيُقَالُ: أَكلنا خُبزَ مَلَّة، وَلَا يُقَالُ أَكلنا مَلَّة... إِنما المَلَّة الرَّماد الْحَارُّ وَالْخُبْزُ يُسَمَّى المَلِيل والمَمْلول، وَكَذَلِكَ اللحمُ.
يعني: أن الـمَـلَّة- بفتح الميم- تنتهي إلى الاكتفاء بلحم الأضحية، فهي الغاية والهدف!
وفيه: المِلَّة: الدِّينُ كملَّةِ الإِسلام والنَّصرانية وَالْيَهُودِيَّةِ، وَقِيلَ: هِيَ مُعْظم الدِّينِ، وَجُمْلَةُ مَا يَجِيءُ بِهِ الرُّسُلُ. وتَمَلَّلَ وامْتَلَّ: دَخَلَ فِي المِلَّة. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
28/ 10/ 2014م
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر:
أم هانئ
منذMohsen Azazy
منذ