ثقافة التلبيس - (5) مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه!!

منذ 2014-10-29

الاختلاف بين الناس أمر واقع ومشاهد، لا يستطيع أن ينكره عاقل، إنما يأتي التلبيس عندما يزعم البعض أن هذا الاختلاف أمر يرضاه الله عز وجل ويحبه

الاختلاف بين الناس أمر واقع ومشاهد، لا يستطيع أن ينكره عاقل، إنما يأتي التلبيس عندما يزعم البعض أن هذا الاختلاف أمر يرضاه الله عز وجل ويحبه، وأنه الغاية من خلقه بني آدم! ويحملون على هذا المعنى الباطل قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119]، ويسيئون فهم قول بعض المفسرين عند هذه الآية: "وللاختلاف خلقهم" فيظنونه يشهد لباطلهم.

وينتج عن هذا: أن لا يروا بأسًا في تفرق المسلمين واختلافهم على مذاهب وفرق شتى، بل هذا عندهم من باب التنوع والتعددية اللذين يثريان الحياة الإسلامية ويزيدانها بهاء! فتجد أحدهم يفتخر بوجود الفرق البدعية والمنحرفة في تاريخ المسلمين، ويعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين وقبولهم (الرأي الآخر)!

ولم يكتف بعض غلاتهم بتسويغ الاختلاف بين المسلمين، حتى ذهب يسوغ اختلاف الكافرين، ويعده أيضًا من باب (التعددية) التي يحبها الله عز وجل ويرضاها لعباده!! فعنده أن اليهودية والنصرانية وغيرها شرائع صحيحة ومتنوعة، جميعها موصلة إلى الله عز وجل، لا فرق بينها عنده!

فها هو من يسمى المفكر الإسلامي محمد عمارة يؤلف كتابًا بعنوان (الإسلام والتعددية) يقول فيه (ص 9): "وفي إطار تعددية الشرائع تحت جامع الدين الواحد جاء الحديث في القرآن الكريم عن نجاة أصحاب الشرائع المتعددة إذا هم جمعتهم جميعًا أصول:

1- الإيمان بالألوهية الواحدة.

2- والإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء.

3- والعمل الصالح في الحياة الدنيا.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69]"!!

نعوذ بالله من الكفر والضلال.

ففي هذا القول من هذا المفكر الجاهل إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة من تكفير كل من لم يدن بدين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]، وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار».

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فمن لم يقر باطنًا وظاهرًا بأن الله لا يقبل دينًا سوى الإسلام فليس بمسلم، ومن لم يُقر بأن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطنًا وظاهرًا فليس بمسلم، ومن لم يُحَرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين" (الفتاوى 27/463-464). وليس المقام مقام إيراد جميع الأدلة القاضية بكفر اليهود والنصارى. (انظر: محمد عمارة في الميزان).

أما الآية التي استدل بها عمارة لترويج باطله فهي "تتناول من كان قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: إن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم". (انظر: دعوة التقريب، للدكتور أحمد القاضي:1/49-50).

هذا عن عمارة: أما غيره فقد كان أقل جرأة وتقحمًا للضلال منه؛ لعلمه بخطورة تصحيح أديان الكفار ومذاهبهم، فاكتفى بتسويغ الخلاف بين الفرق الإسلامية المتنوعة، مدعيًا أن هذا من قبيل التعددية والتنوع المحمود!

وخير مثال لهؤلاء: الدكتور محمد سليم العوا الذي ألف كتابًا سماه (التعددية في الإسلام) أقر فيه الاختلاف بين الفرق المنتسبة للإسلام، وسوغ لها انحرافها عن الحق بالدعاوى السابقة، ورد حديث (الافتراق) ثم قال (ص 28): "فالأخوة الذين يعولون عليه في رفض التعددية، أو في تعداد الفرق الإسلامية عليهم أن يرجعوا إلى أهل الرواية؛ حتى يقفوا على مدى صحته"! وأهل الرواية عنده هم محمد عمارة!! الذي نقل تكذيبه للحديث.

وعمارة والعوا وأضرابهما ممن لم يتشربوا العقيدة الصحيحة التي توضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية لله عز وجل -كما سيأتي- يقعون حتمًا في هذا الخلل العقدي الخطير.

لكن ما بال من تلقى العقيدة السلفية الصافية منذ نعومة أظفاره يتابع هؤلاء على انحرافهم، ويقع فيما وقعوا فيه؟! فها هو الأستاذ إبراهيم البليهي هداه الله في مؤتمر الحوار الوطني يثني على هذا الاختلاف بين المسلمين ويسوغه، ويزعم أنه "هو علة وجودهم" كما يقول! ويحمل على هذا الفهم الباطل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [هود:118-119].

وها هو الأستاذ محمد المحمود الكاتب بجريدة الرياض (5/6/1425) يكتب مقالاً إنشائيًا بعنوان (مسائل الخلاف: شرعية مع وقف التنفيذ)، يقول عن الخلاف بين الأمة "فكذلك ينبغي أن يدوم ويعمم بأقصى درجة ممكنة"!! ثم يدعو إلى السماح بتطبيق كل خلاف مهما كان على أرض الواقع! وفاته أن نهاية هذه الدعوة ستؤول إلى الزندقة والتنصل من أحكام الشريعة، لكن بأسلوب يُزعم له أنه شرعي! كما قال الشاعر الماجن:

فاشرب ولُط وازنِ وقامر واحتجج *** في كل مسألةٍ بقول إمام!

يعني بذلك: شرب النبيذ وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة، والوطء في الدبر على ما يُعزى لمالك، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي.

كيف أتي هؤلاء؟!

لقد أُتُوا من عدم تفريقهم بين إرادة الله الكونية التي لا تستلزم الرضا والحب، وبين إرادته الشرعية التي تستلزم ذلك. فالكفر والمعاصي مثلاً واقعة بإرادته سبحانه الكونية، ولا يستلزم ذلك محبته لها ورضاه عنها، بخلاف الإيمان والعمل الصالح فهي واقعة بإرادته الشرعية، وهو مريد لها شرعًا بما يستلزم محبته ورضاه عنها.

والقرآن قد وردت فيه آيات كثيرة تدل على كل واحدة من الإرادتين والمشيئتين. فمن آيات الإرادة الكونية قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11].

ومن آيات الإرادة الشرعية قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره" (المنهاج:7 /72).

وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 79): "المحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية. فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى. والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث".

فهؤلاء المفكرون عندما رأوا أن الله قد أراد هذا الاختلاف والتفرق بين البشر كونًا وقدرًا ظنوا أن هذا مما يحبه الله ويرضاه! فرضوا به وسوغوه، فيلزمهم على هذا تسويغ الكفر والمعاصي والرضا بها وعدم إنكارها!! لأنها واقعة بإرادة الله.

ولو فرقوا بين الإرادتين لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولعلموا أن وقوع الاختلاف والتفرق بين البشر كونًا وقدرًا لا يستلزم الرضا به ومحبته وتسويغه، بل هو مما يبغضه الله سبحانه وتعالى ويأمر عباده بإنكاره وعدم الوقوع فيه كما سيأتي إن شاء الله.

فقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] أي أراد بإرادته الكونية أن لا يقسر الناس على الايمان قسرًا، بل جعل لهم مشيئة وإرادة، ليكون الناس بعد ذلك فريقين: فريقًا للاختلاف وفريقًا للرحمة، وهذا ما عناه بعض المفسرين عندما قال: "وللاختلاف خلقهم". وليس معناها كما يظن عمارة ومن معه أن الله أذن لهم بالاختلاف ورضيه!

قال الطبري: "إن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقب ذلك بقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فعم بقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} صفة الصنفين؛ فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له. فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم؛ إلا من رحم ربك فهداه للحق، ولعلمه وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكفار والتقي والسعيد" (15/537-538).

وسُئل مالك عن قول الله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير (الطبري: 15/536).

وقال ابن حزم: "قد نص الله تعالى على الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به؛ وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي" (الإحكام في أصول الأحكام:5/64).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]: "اللام لبيان الجملة الشرعية المتعلقة بالإرادة الشرعية؛ كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:26]، وقد تكون لبيان العاقبة الكونية؛ كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام:125]، وهكذا كقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي خلق قومًا للاختلاف وقومًا للرحمة" (الفتاوى 4/236). وقال أيضًا: "خلق قومًا للاختلاف، وقومًا للرحمة" الفتاوى:4/236).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدله وحكمته؛ وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء" (تفسيره:3/470).

وقال الشيخ حمد العثمان عن قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: "وبعض الجهال يستدل بهذه الأدلة على وجوب التسليم والإذعان للاختلاف، لأن الله أراده! وهذا يلتبس على من لا يفرق بين ما أراده الله وقضاه كونًا، وما أراده وقضاه شرعًا. فالخلاف مما قضاه الله وأراده كونًا لحكمة بالغة، حتى يتميز المتبع من المبتدع، ويقوم المتبع بمجاهدة المبتدع بالحجة والبيان. فالخلاف كالكفر باعتبار إرادة الله له كونًا، فالله لا يحبه، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية قدرية" (دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون:ص 30).

 

ثم هذه الدعوة الباطلة التي يدعو إليها هؤلاء بتسويغهم الاختلاف بين الأمة تنافي الآيات والأحاديث الآمرة لها بعدم التفرق والاختلاف، والمحذرة لهم من هذا الأمر الذي وقع فيه من قبلهم. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة: «لا تختلفوا». (وانظر باقي الأدلة في كتاب (الاعتصام) للشاطبي، رسالة (وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق)، للشيخ جمال بادي، ورسالة (إتمام النعمة والنعمة في ذم اختلاف الأمة) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ورسالة (ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة) للشيخ عبد الله الغنيمان).

فالأمة الإسلامية مأمورة بتجنب الاختلاف، فإن وقع شيء منه؛ فهي مأمورة بحسمه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لا تسويغه ومدحه؛ كما يظن أولئك.

قال المزني: "ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة" يعني قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59].

فإن قيل: وماذا نصنع بتفرق الأمة الحالي واختلافها إلى فرق ومذاهب شتى؟!

فالجواب:

1 - أن لا نرضى هذا التفرق والاختلاف، ولا نسوغه وندعي أنه أمر مشروع.

2- أن نحاول حسمه بالرجوع للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وننكر على أهل البدع والمخالفات بدعهم ومخالفاتهم، ونناصحهم (بالضوابط الشرعية التي بينها العلماء).

3- فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم ينتهوا فإننا نثبتُ على الحق والتحذير مما خالفه، ولا نتنازل عن شيء منه لأجل تقريب موهوم معهم. قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].

 

هل يدخل أهل السنة في أهل الاختلاف المذموم؟!

قد يقول قائل: وماذا عن أهل السنة المختلفين في مسائل الفقه، هل يدخلون في أهل الاختلاف الذين ذمهم الله تعالى؟!

فالجواب ما قاله الشاطبي رحمه الله: "قد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال: "أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضيرهم". يعني: لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر، بل لهم فيه أعظم العذر، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يُرجع إليه، وهو قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يُرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك رده إليه إذا كان حيًا، وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم.

إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أم لا؟

والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه:

أحدها: أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكور مباينون لأهل الرحمة؛ لقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، فإنها اقتضت قسمين: أهل اختلاف ومرحومين، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف، وإلا كان قسم الشيء قسيمًا له، ولم يستقم معنى الاستثناء.

والثاني: أنه قال فيها: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك؛ لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريًا لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازمًا له، ولا ثابتًا، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.

والثالث: أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة؛ وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم، بحيث لا يصح إدخالهم في قسيم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف -ولو بوجه ما- لم يصح إطلاق القول في حقه: إنه من أهل الرحمة. وذلك باطل بإجماع أهل السنة.

الرابع: أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة" (الاعتصام:3/122-124) (وانظر: مقدمات في الأهواء، للشيخ ناصر العقل:ص 32).

قلت: يعني بالرابع: مثل قول الإمام أحمد لما قال لمن ألف كتاب الاختلاف: "سَمهِ كتاب السعة"، ومثل قول عمر بن عبد العزيز عندما قال: "ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة".

وهذا كما قال القاضي إسماعيل: "إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا. ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا".

قال ابن عبد البر معلقًا: "كلام إسماعيل هذا حسن جدًا" (جامع بيان العلم:ص 395).

وقال الدكتور عبد السلام المجيدي: "المراد من كون الاختلاف رحمة ومن قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله إن صح عنه: هو السعة في جواز أصل الاجتهاد، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا؛ حل لمن بعدهم، فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد، وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف" (لا إنكار في مسائل الخلاف:ص 154-155).

 

إذًا: فليس معنى التوسعة في الخلاف التشهي بين الأقوال المختلفة، كما يظن البعض. قال شيخ الإسلام: "وأما قول القائل: كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه" (الفتاوى:22/240) (وانظر: دراسة نقدية للعثمان).

فأهل السنة ولله الحمد مجتمعون على أصول واحدة، وخلافاتهم الفقهية يُرجع فيها إلى الدليل، فإن كانت من المسائل الاجتهادية -وهي قليلة- عذر بعضهم فيها بعضًا، ولم يُنكر عليه. وإن كانت ليست مسألة اجتهاد، بل الدليل فيها بيّن؛ أنكر على المخالف.

"ولمعرفة الفرق بين المسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف، والمسائل الاجتهادية التي لايسوغ فيها الإنكار؛ ارجع إلى هذه الرسائل المهمة: (الاختلاف وما إليه) للشيخ محمد عمر بازمول، و(حكم الإنكار في مسائل الخلاف) للدكتور فضل إلهي، و(حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف) للشيخ فوزي الأثري، وبحث (الإنكار في مسائل الخلاف) للدكتور عبد الله الطريقي، منشور في مجلة البحوث، عدد 47).

وبهذا تجتمع الأمة على الحق وتأتلف، وتستجيب لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. أما من يريد بقاء الأمة على اختلافاتها، ويسوغ لها ذلك، فهو مريد لها استمرار الهوان والضعف، سواء قصد هذا أم لم يقصده، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103، 104].

والله الموفق.

  • 0
  • 0
  • 10,328
المقال السابق
(4) (المجتمع المدني).. الموضة الجديدة لأصحاب (اللحى الليبرالية)
المقال التالي
(6) مصطلح التسامح

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً