الأحكام السلطانية للماوردي - (89) حد الزنا (2)

منذ 2014-11-04

اللواط وإتيان البهائم زنًا يوجب جلد البكر، ورجم المحصن، وقيل: بل يوجب قتل البكر والمحصن. وقال أبو حنيفة: لا حدَّ فيها، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اقتلوا البهيمة ومن أتاها».

الفصل الأول: في حد الزنا (2)

 

الزنا هو تغيب البالغ العاقل حشفة ذكره في أحد الفرجين من قُبُلٍ أو دُبُرٍ ممن لا عصمة بينهما ولا شبهة، وجعل أبو حنيفة الزنا مختصًّا بالقُبُل دون الدبر، ويستوي في حد الزنا حكم الزاني والزانية، ولكل واحد منهما حالتان: بكر ومحصن، أما البكر فهو الذي لم يطأ زوجة بنكاح، فيحد إن كان حرًّا مائة سوط تفرق في جميع بدنه، إلَّا الوجه والمقاتل، ليأخذ كل عضو حقه، بسوط لا جديد فيقتل، ولا خلق فلا يؤلم، واختلف الفقهاء في تغريبه مع الجلد، فمنع منه أبو حنيفة اقتصارًا على جلده. وقال مالك: يغرَّب الرجل ولا تغرَّب المرأة، وأوجب الشافعي تغريبها عامًا عن بلدها إلى مسافة أقلها يوم وليلة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»[1].

وحد الكافر والمسلم سواء عند الشافعي في الجلد والتغريب.

وأما العبد ومن جرى عليه حكم الرق من المدبّر والمكاتب وأم الولد، فحدهم في الزنا خمسون جلدة على النصف من الحر لنقصهم بالرق، واختلف في تغريب من رق منهم فقيل: لا يغرَّب لما في التغريب من الإضرار بسيده، وهو قول مالك، وقيل: يغرَّب عامًا كاملًا كالحر، وظاهر مذهب الشافعي أن يغرَّب نصف عام كالجلد في تنصيفه، وأما المحصن فهو الذي أصاب زوجته بنكاح صحيح، وحده الرجم بالأحجار، أو ما قام مقامها حتى يموت، ولا يلزم توفي مقاتله، بخلاف الجلد؛ لأنَّ المقصود بالرجم القتل، ولا يجلد مع الرجم. وقال داود: يجلد مائة سوط ثم يرجم، والجلد منسوخ في المحصن. وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا ولم يجلده.

وليس الإسلام شرطًا في الإحصان، فيرجم الكافر كالمسلم، وقال أبو حنيفة: الإسلام شرط في الإحصان، فإذا زنى الكافر جلد ولم يرجم، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديين زنيا ولا يرجم إلّا محصنًا، فأمَّا الحرية فهي من شروط الإحصان، فإذا زنى العبد لم يرجم، وإن كان ذا زوجة جلد خمسين، وقالد داود: يرجم كالحر. واللواط وإتيان البهائم زنًا يوجب جلد البكر، ورجم المحصن، وقيل: بل يوجب قتل البكر والمحصن. وقال أبو حنيفة: لا حدَّ فيها، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اقتلوا البهيمة ومن أتاها»[2].

وإذا زنى البكر بمحصنة أو المحصن بالبكر جُلِدَ البكر منهما ورُجِمَ المحصن، وإذا عاود الزنا بعد الحد حدَّ، وإذا زنى مرارًا قبل الحدِّ حد للجميع حدًّا واحدًا.

والزنا يثبت بأحد أمرين: إمَّا بإقرار أو بينة.

فأما الإقرار: فإذا أقرَّ البالغ العاقل بالزنا مرة واحدة طوعًا أقيم عليه الحد. وقال أبو حنيفة: لا آخذه حتى يقرَّ أربع مرات، وإذا وجب الحد عليه بإقراره، ثم رجع عنه قبل الجلد سقط عند الحد. وقال أبو حنيفة: لا يسقط الحد برجوعه عنه.

وأما البينة: فهو أن يشهد عليه بفعل الزنا أربعة رجال عدول لا امرأة فيهم، يذكرون أنهم شاهدوا دخول ذكره في الفرج كدخول المرود في المكحلة، فإن لم يشاهدوا ذلك على هذه الصفة فليست شهادة، فإذا قاموا بالشهادة على حقها مجتمعين أو متفرقين قبلت شهادتهم.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا أقبلها إذا تفرقوا في الأداء وأجعلهم قذفة. وإذا شهدوا بالزنا بعد سنة أو أكثر سمعت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: لا أسمعها بعد سنة وأجعلهم قذفة، وإذا لم يكمل شهود الزنا أربعة فهم قذفة يُحَدُّون في أحد القولين ولا يحدون في الثاني. وإذا شهدت البينة على إقراره بالزنا جاز الاقتصار على شاهدين في أحد القولين. ولا يجوز في القول الثاني أقلّ من أربعة، وإذا رجم الزاني بالبينة حفرت له بئر عند رجمه ينزل فيها إلى وسطه يمنعه من الهرب، فإن هرب أتبع، ورُجِمَ حتى يموت، وإن رجم بإقراره لم تحفر له، وإن هرب لم يتبع.

ويجوز للإمام أو من حكم برجمه من الولاة أن يحضر رجمه، ويجوز أن لا يحضر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلّا بحضور من حكم برجمه؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أنيس على هذه المرأة فإن اعترفت فارجمها»[3].

ويجوز أن لا يحضر الشهود رجمه. وقال أبو حنيفة: يجب حضورهم وأن يكونوا أول من يرجمه؛ ولا تحدّ حامل حتى تضع، ولا بعد الوضع حتى يوجد لولدها مرضع إذا ادَّعى في الزنا شبهة محتملة من نكاح فاسد، أو اشتبهت عليه بزوجته، أو جهل تحريم الزنا وهو حديث الإسلام درئ بها عند الحد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات»[3].

وقال أبو حنيفة: إذا اشتبهت عليه الأجنبية لزوجته لم يكن ذلك شبهة له وحد من أصابها، وإذا أصاب ذات محرم بعقد نكاح حد، ولا يكون العقد مع تحريمها بالنص شبهة في درء الحد؛ وجعله أبو حنيفة شبهة يسقط بها الحد عنه. وإذا تاب الزاني بعد القدرة عليه لم يسقط عند الحد، ولو تاب قبل القدرة عليه يسقط عند الحد في أظهر القولين، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل من الآية:119].

وفي قوله: {بِجَهَالَةٍ} تأويلان: أحدهما: بجهالة سوء.

والثاني: لغلبة الشهوة مع العلم بأنَّها سوء وهذا أظهر التأويلين، ولكن من جهل بأنها سوء لم يأثم بها، ولا تحل لأحد أن يشفع في إسقاط حد عن زانٍ ولا غيره، ولا يحل للمشفوع إليه أن يشفع فيه، قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء من الآية:85].

وفي الحسنة والسيئة ثلاث تأويلات:

أحدها: أن الشفاعة الحسنة التماس الخير لمن يشفع له، والشفاعة السيئة التماس الشر له، وهذا قول الحسن ومجاهد.

والثاني: أنَّ الحسنة الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والسيئة الدعاء عليهم.

والثالث: وهو محتمل، أنَّ الحسنة تخليصه من الظلم والسيئة دفعه عن الحق.

وفي الكفل تأويلان:

أحدهما: الإثم، وهو قول الحسن.

والثاني: أنه النصيب، وهو قول السدي[4].

__________

(1) صحيح: (رواه مسلم في (كتاب [1690])، وأبو داود في (كتاب الحدود [1690])، والترمذي في (كتاب الحدود [1434])، وابن ماجه في (كتاب الحدود [2550])، وأحمد [22158])).

(2) حسن صحيح: (رواه أبو داود في (كتاب الحدود [4464])، والترمذي في (كتاب الحدود [1455])، وابن ماجه في (كتاب الحدود [2564]، وأحمد [2416])، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح).

(3) صحيح: (رواه البخاري في (كتاب الوكالة [2315])، ومسلم في (كتاب الحدود [1698]).

(4) ضعيف: (ضعفه الشيخ الألباني في (ضعيف الجامع [258]).

(5) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب السدي، الإمام أبو محمد السدي الكبير، الحجازي ثم الكوفي، الأعور المفسر راوي قريش، روى عن أنس بن مالك وابن عباس وعبد خير الهمداني ومصعب بن سعد وأبي صالح باذام وأبي عبد الرحمن السلمي ومرة الطيب وخلق، ورأى أبا هريرة والحسن بن علي رضي الله عنه، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال النسائي: صالح الحديث، وقال القطان: لا بأس به، وقال أحمد: مقارب الحديث. وقال مرة: ثقة، وقال ابن معين: ضعيف، وقال أبو زرعة: لين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن عدي: هو عندي صدوق. قيل: إنه كان عظيمًا).

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 5
  • 2
  • 21,501
المقال السابق
(88) مدخل في أحكام الجرائم (1)
المقال التالي
(90) قطع السرقة (3)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً