عائدون للديار..
"هنا.. كان المسجد.. كأني أسمع صوت المؤذن"، ووقف على صخرة عالية وبدأ يؤذن "الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله!" .. أجفل وهو يتذكر كيف كانت صيحات حي على الجهاد.. حي على الفلاح تأتي من المسجد تستنفر الناس للجهاد.. ويتجمعوا ليقاوموا..
ها قد حان الوقت للعودة..
وقف ومعه أحفاده الصغار.. ضمن أفواج العائدين..
كلّ يحمل متاعه.. تحمل الملامح معها ذكريات مضت في الديار..
تلفَّت حوله.. كم تغييرت ملامح الأرض.. كم تغيير لونها.. الأخضر اليانع أصبح رمادي يعلوه مسحة حزن..
المدينة الصاخبة.. خيَّم عليها الصمت..لا يُسمع إلا صوت الرياح وحبات رمال تطير معها..
المدينة الحية.. لا يوجد بها شيء حيّ.. إلا بعض من براعم هنا وهناك.. تبعث في الأرض الرمادية بعض الأمل والحياة..
"جدو! أهذه هي الديار؟! ليست كما كنت تحكي لنا!" .. ابتسم لهم ابتسامة تحمل معها حِمل السنون..
"بل هي يا أحبائي.. هل ترون ..هناك! كان منزلنا.. هناك ولدت بنتي"، ابتسم وهو يتذكر كم كانت ابنته تبستم له كل يوم وهي تودعه.. وكتم دمعة وهو يتذكر اليوم الذي خرج منه من المنزل وودَّعَ زوجته وكانت ابنته قد مرت على المنزل تساعد الأم في بعض أشياء بعد ما أوصلت الأطفال إلى المدرسة، ودعته كما كانت عادتها منذ الصغر.. ابتسم وعندما أدار ظهره لهما .. لم يمشِ إلا خطواتٍ قليلة.. وسمع صوت أصمَّ أُذُنَهُ وأبعده كثيرًا عن المنزل! صاروخ نزل على المنزل! فجّرَّهُ.. مَحَى معه كل ذكرى وابتسامة كانت له!
"هنا.. كان المسجد.. كأني اسمع صوت المؤذن"، ووقف على صخرة عالية وبدأ يؤذن "الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله!" .. أجفل وهو يتذكر كيف كانت صيحات (حيَّ على الجهاد.. حي على الفلاح) تأتي من المسجد تستنفر الناس للجهاد.. ويتجمعون ليقاوموا..
"هنا.. كانت المدرسة..
وهنا كانت الحديقة.. كأني بضحكات الأطفال لم تَزَل تُلَّوِّن المكان.. كم أخذت أولادي للنُزهَةِ هنا..
هنا كان يسكن أخي.. وهنا كان عملى..
هنا.. كان منزل صغير نختبيء فيه..
هنا.. كانت آخر معاركنا.. حملنا ما نستطيع وخرجنا.. خرجنا وتركنا أرواحنا فيها.. لنعود إليها..
هنا.. وهنا"، وجعل يُعَرِّفهُم على المكان..
وبدأ كل من حوله ممن شهد الديار.. يروي للصغار ما كان.. لكي يُحيوا تلك الأرض من جديد..
فمنذ رحلوا عنها كانوا يحلمون بالعودة إليها.. ويحكون للصغار الذين لم يشهدوا الديار عمّا كان فيها.. حتى إذا لم يشهدوا بأنفهسم يوم العودة.. يعودُ إليها الصغار يعمروها كما كانت..
قالَ حُذَيْفةُ بن اليمان: قالَ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: « » (صحيح).
كنا ننتظر خلافة على منهاج النبوة..
فما كان لنا أن نعود مرة آخرى.. وتهدأ الأمور .. إلا أن تعود..
كنا نُحَّفِّظُ الصغارَ أن عودتنا حتمية.. وأنها عقيدة، فالنصر والتمكين وعدٌ من الله لنا.. نعمل جهدنا وننتظره..
فإن لم يبلغوه.. حفَّظُوهُ من بَعدَهُم..
ثم انتبه حين ابتلت لحيته بماء المطر..
ونظر حوله فإذا الجميع ينظرُ للسماء..
ورأى الأطفال يلعبون تَهُزُّ ضحكاتِهِم الصمت..
وتحيِ حبات المطر الأرض بإذن ربها.. تغسل معها الأرواح المنهكة..
وتجدد الأمل.
- التصنيف:
- المصدر: