غيبة الأبناء: (أسبابها، وأضرارها، وعلاجها)

منذ 2014-11-19

في هذه المقالة سأحاول تسليط الضوء على مفهوم الغيبة وحكمها الشرعي، وأسباب غيبة الأمهات لأبنائهن، والأضرار الواقعة على الأبناء بسبب تلك الغيبة، والحالات التي يباح فيها أن تغتاب الأم أبنائها وفي النهاية سأختم مقالتي بكيفية التوبة من الغيبة وكيفية معالجة أسبابها وأضرارها.

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعد..

مشهدٌ واقعي:

تقابلت شيماء مع رفيقتها فاطمة وبدأَ في الحوار وتبادل الأخبار ثم تحول الكلام إلى حال الأبناء؛ فبدأت شيماء تشتكي ابنتها عائشة وفاطمة تسمع وتتعجب مما يقال وتردِّد هل معقول أن تفعل عائشة كل هذا، عائشة تلك الفتاة المعروفة بحُسن الخُلق والالتزام، حتى امتلأ قلبها نفورًا من عائشة بعد أن كانت مُحبَّبة إليها ومُقرّبة إلى قلبها.

وتتفرّق الرفيقتان حيث أفرغت شيماء شحنة غضبها من عائشة في قلب رفيقتها فاطمة، ولم تُفكِّر للحظة ماذا سيكون تأثير تلك الكلمات على رفيقتها؟ ولا كيف سيكون حال رفيقتها مع عائشة بعد أن سمعت ما تكره عنها؟

وصدّقت فاطمة كلمات رفيقتها بدون التحقق مما حدث لعل شيماء بالغت في الأمر ولم تُظهِر الحقيقة كاملة!

وفي ظل انتشار وسائل التواصل وتنوعها، انتشر معها كثرة الكلام والقيل والقال وبالأخص حكايات النساء عن أبنائهن، ورغم تنوع الأسباب التي أدّت لسرد تلك الحكايات إلا أن النتيجة واحدة، غيبة الأم لأبنائها وتضرّر الأبناء من ذلك.

لذلك في هذه المقالة سأحاول تسليط الضوء على مفهوم الغيبة وحكمها الشرعي، وأسباب غيبة الأمهات لأبنائهن، والأضرار الواقعة على الأبناء بسبب تلك الغيبة، والحالات التي يباح فيها أن تغتاب الأم أبنائها وفي النهاية سأختم مقالتي بكيفية التوبة من الغيبة وكيفية معالجة أسبابها وأضرارها.

مفهوم الغيبة:

والغيبة هي "أن تذكري أبنائكِ بما يكرهون لو بلغهم، سواءً ذكرتيهم بنقصٍ في بدنهم أو نسبهم أو في خَلْقِهِم أو خُلُقِهِم، أو في دينهم أو فعلهم أو قولهم، أو في دنياهم، حتى ثوبهم ودارهم ودابتهم وغير ذلك" (إحياء علوم الدين ج3، ص: [143]، بتصرُّفٍ يسير).

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيلَ: يا رسولَ اللهِ ما الغيبةُ؟ قالَ: «ذِكرُكَ أخاكَ بما يَكرَهُ»، قالَ: أرأيتَ إن كانَ فيهِ ما أقولُ؟ قالَ: «إن كانَ فيهِ ما تقولُ فقَدْ اغتبتَهُ وإن لم يَكن فيهِ ما تقولُ فقد بَهتَّهُ» (رواه الترمذي: [1934]، وقال: "هذا ‏حديثٌ حسنٌ صحيح").

وحديث الأمهات عن أبنائهن يعتبر من الغيبة، "فقد حصر العلماء المسائل التي يجوز فيها الغيبة عند الحاجة، ولم يستثنوا منها غيبة الأم لأبنائها" (فتوى: [41639]؛ للشيخ خالد عبد المنعم الرفاعي، موقع طريق الإسلام، بتصرٌَفٍ يسير).

وسُئِل الشيخ ابن باز في برنامج (نور على الدرب): "هل الغيبة تنتفي إذا كانت المرأة تتكلّم عن ابنها وزوجته، مع بناتها في غيبتهما؟ وهي تقول بأن هذا ليس من الغيبة؟

فأجاب: إذا ذكرت ابنها بما يكره، أو زوجته بما يكره، فهذه غيبة" اهـ (فتوى: [226453]؛ بموقع الإسلام ويب).

وبالتالي إن ذكرتِ أبناءكِ في غيابهم بما يكرهوا أن يُقال عنهم، فقد اغتبتِهم، وإن افتريتِ عليهم بما ليس فيهم، فقد بهتِّهم.

حكم الغيبة:

والغيبة مُحرّمة بالكتاب والسنة والإجماع، وعدَّها كثير من العلماء من الكبائر، "وعليه فغيبة الأم لأبنائها مُحرّمة كغيرها" (فتوى: [41639]؛ للشيخ خالد عبد المنعم الرفاعي، موقع طريق الإسلام، بتصرُّفٍ يسير).

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة: «يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه» (صحيح: صحيح الجامع: [7984]).

وذم الله تعالى صاحب الغيبة فقال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات من الآية:12].

ومنها فإن غيبتكِ لأبنائكِ تُعتبَر كأنكِ تأكلين من لحومهم وهم ميتون -رغم كراهيتكِ الشديدة لذلك- فإذا كنتِ تكرهين أكل لحومهم وهم ميتون فمن باب أولى ترك غيبتهم وذكرهم بما يكرهون وهم أحياء.

كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة الغيبة في الآخرة مُوضحًا أن الجزاء سيكون من جنس العمل فقال: «أنه لمَّا عُرِجَ به مرَّ على قومٍ لهم أظافر من نحاسٍ يَخمشون بها وجوهَهم وصدورَهم»، فقال: «يا جبريلُ من هؤلاءِ؟»، فقال: «هؤلاءِ الذين يأكلونَ لحومَ الناسِ ويقعونَ في أعراضِهم» (مجموع فتاوى بن باز: [239/9]، صحيح).

أسباب غيبة الأبناء:

وقد تعدّدت أسباب غيبة الأمهات لأبنائهم في عصرنا هذا، أذكر منها على سبيل المثال:

1- اعتبار الأم أن الأبناء ملكية خاصة لها، فترى أن من حقها التحدُّث عنهم كيفما شاءت وأينما شاءت وبما شاءت، وترى أن من حقها إفشاء أسرارهم لأي شخص ولأي سبب (إما لظنها أن أبناءها لن يعلموا أنها أفشت سِرّهم، أو لأنها تظن أن المستمع من حقه أن يعرف ذلك السِرّ، غافلةً أن هذا حق للأبناء فقط ولا يجوز لها إفشاء أسرار أبنائها حتى لو غضب منها جميع البشر).

2- الغضب والغيظ لعدم قدرة الأم على فرض سيطرتها على أبناءها أو عدم قدرتها على أخذ شيء منهم بالأخص لو كانوا متزوجين.

3- الاستهزاء بهم والانتقاص منهم على سبيل الفكاهة والمرح أو للتقليل من شأنهم كونها تنظر لعيوبهم أكثر من مميزاتهم.

4- الغيرة والحسد خصوصًا إذا رُزِقت الابنة -بعد الزواج- بما حُرِمَت منه الأم.

5- مجاراة المُتحدِّثين ومشاركتهم في غيبة الأبناء.

6- الفضفضة والتنفيس عن النفس لعدم رضا الأم عن حال أبنائها المادي أو المعنوي.

الأضرار المترتبة على غيبتكِ لأبنائكِ:

• زيادة نفوركِ من أبنائكِ ونفورهم منكِ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرواحُ جنودٌ مجنَّدةٌ، فما تعارف منها ائتَلَف. وما تناكَر منها اختلف» (رواه مسلم: [2638])، فكيف تريدين لأرواحهم أن تتآلف مع روحكِ وأنتِ تذكرينهم بالسوء وتعصي الله بغيبتهم؟!

• وقد ذكر الشيخ بن عثيمين رحمه الله: "إن المعاصي لتوجب نفور الناس بعضهم من بعض" (تفريغ خطبة ماذا تُسبِّب المعاصي؟ للشيخ بن عثيمين رحمه الله).

• نفور الناس من أبنائكِ، فالناس عادة تتعاطف مع الأم بغض النظر هل كلامها صحيح أم لا وبغض النظر هل هي على حق أم لا؟ والنفوس تتأثر بكلام غيرها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُبلِّغُني أحدٌ عن أحدٍ مِن أصحابي شيئًا فإنِّي أحبُّ أن أخرجَ إليكُم وأنا سليمُ الصدرِ» (حسن، رواه أحمد: [5/286]).

وقال الشيخ عبد العزيز الطريفي فيمن يترك لنفسه العنان للاستماع لغيره: "العاقل لا يسمع كلام الناس في الناس لأن صدره أضيق من أن يتحمّل أحقاد الجميع".

• استباحة الغير أن يتحدَّث عن أبنائكِ بالسوء -بالأخص المُقرَّبين كإخوتهم وإخوانهم والأهل والجيران- كونهم يرونكِ تستبيحين التحدُّث عن أبنائكِ، وهذا مما يتسبّب في ملء القلوب بالضغائن والعداوة وقطع الود والمحبة بينهم وبين أبنائكِ، مع زيادة نفوركِ من أبنائكِ لما تسمعينه عنهم من سوء.

• إدخال الحزن على قلوب أبنائكِ مما يؤدي لبعدهم عنكِ، فالله عز وجل يستر على العبد كثيرًا حتى إذا تكرّرت معصيته، كشف الستر عن عبده، والله قد أخفى عن أبنائكِ غيبتكِ لهم حتى إذا زادت غيبتكِ، كشف الله ستركِ ويسَّر من الأسباب ما يجعل أبناءكِ يعلمون بغيبتكِ لهم.

الحالات التي يجوز فيها الغيبة:

1- التظلُّم: حين يقع عليكِ ظلم من أبنائكِ فمِن حقكِ التظلُّم لمن له سلطة كالقاضي وغيره ليسترد لكِ حقكِ.

2- الاستعانة بالغير على تغيير المنكر ورد العاصي لصوابه: حين يرتكب أبناؤكِ المعاصي فمن حقكِ الاستعانة بمن له قدرة على زجره وردعه.

3- الاستفتاء والاستشارة: فتلجئين لأهل العلم والخبرة ممن يَتسِمون بالحكمة لتستشيريهم في كيفية تربية أبنائكِ والتعامل معهم.

4- التحذير من شَرِّ أبنائكِ إن كانوا يتسبّبون في أذًى لغيرهم.

علاج الغيبة:

ينقسم العلاج إلى شقين:

التوبة من الغيبة:

• التوبة إلى الله عز وجل والندم عما فعلتِه من معصية (الغيبة) وأخذ عهد على نفسكِ أمام الله عز وجل بعدم تكرارها مع الالتزام بذلك الوعد.

• الذهاب لمن اغتبتِ من أبنائكِ طالبة منهم أن يُسامِحوكِ ويَحِلُّوكِ من غيبتكِ لهم حتى لا يأخذوا من حسناتكِ يوم القيامة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مَظلمةٌ لأخيه فليتحلَّلْه منها، فإنَّه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ، من قبلِ أن يُؤخَذَ لأخيه من حسناتِه، فإن لم يكُنْ له حسناتٌ أخذ من سيِّئاتِ أخيه فطُرِحت عليه» (رواه البخاري: [6534]).

الاستغفار لنفسكِ ولمن اغتبته من أبنائكِ إن كنتِ غير قادرة على طلب العفو منهم حتى لا تأتي يوم القيامة وقد أفلستِ من الحسنات، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلِسُ؟»، قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: «إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه. ثمَّ طُرِح في النَّارِ» (رواه مسلم: [2581]).

علاج أسباب الغيبة وأضرارها:

1- علاج أسباب الغيبة:

• عليكِ بتأمُّل سبب غيبتكِ لأبنائكِ ومحاولة تطهير قلبكِ من مشاعركِ التي دفعتكِ للغيبة وسؤال نفسكِ دومًا: أتُحبين أن تأكلي من لحوم أبنائكِ وهم ميتون حتى تذكرينهم بما يكرهون وهم أحياء؟

• تزكية لسانكِ بالمداومة على ذكر الله والبُعد عن كل ما يغضب الله، من غيبة ونميمة وغيرها، فقد رُوِي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك لسانه وقال: «كف عليك هذا». فقُلْت -أي معاذ-: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا مُعاذٍ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم،  -أو: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟» (حسن، رواه الترمذي: [2616]).

2- معالجة الأضرار الواقعة على الأبناء من الغيبة:

• البدء بالتحدث بالخير عن أبنائكِ عند كل شخص اغتبتهم عنده، مع الاستمرار على ذلك حتى تزيلي ما غُرس في قلوب الناس من ضيق وكره وعدم احترام لأبنائكِ.

• عدم السماح لأي شخصٍ مهما كبُر أو صغُر ومهما كانت مكانته لديكِ بأن يغتاب أبناءكِ، بل عليكِ بزجرهم وتوعيتهم بحرمة ذلك مع زرع محبة أبنائكِ واحترامهم في قلوب هؤلاء. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن ردَّ عن عِرضِ أخيه ردَّ اللهُ عن وجهِه النَّارَ يومَ القيامةِ» (حسن: رواه الترمذي: [1931])، وكان من هدي السلف رحمهم الله، اذا اغتيب أحد في وجودهم أن يردوا غيبته بقول: "ما علمتُ عليه إلا خيرًا".

• الإيمان بأن الأبناء رزق ونعمة تتقرّبين بهم إلى الله عز وجل بحٍسن معاملتكِ لهم، ومعرفة أن أبناءكِ ليسوا ملكية خاصةً لكِ تتحكمين فيهم كما شِئتِ كيفما شِئتِ، بل هم مُلكٌ لله عز وجل ولهم من الحقوق عليكِ مثل أي مسلم، وعليكِ بالإحسان إليهم وذكرهم بالخير في حضورهم وغيابهم حتى لو اختلفتِ معهم في الطباع والأفكار.

أسأله سبحانه أن يُؤلِّف بين قلوبنا وقلوب أبنائنا، وأن يُطهِّر قلوبنا وألسنتنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

سوزان بنت مصطفى بخيت

كاتبة مصرية

  • 15
  • 0
  • 16,716

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً