أي خبز.. وأي حياة!!
في شوارع باريس وطرقاتها الغاضبة تعالت الصيحات والهتافات الساخطة.. لقد بلغ السيل الزبى ووصل الأمر إلى منتهاه.. النصر يقترب ويلوح في الأفق.. لقد سقط سجن الباستيل رمز الطغيان الفرنسي وعنوان قهر البلاط للرعية.
لم يعد بين الجماهير الغاضبة وبين قصر فرساي الشهير خارج حدود باريس إلا أمتار معدودات.. لكن ماذا يريدون؟!
هكذا تساءلت (ماري) ببراءة ساذجة
- أوحقًا لا تعرفين؟!
إنهم يريدون الخبز..
- كل هذه الضجة لأن الخبز غير متوفر؟!
ولماذا الإصرار على الخبز إذًا؟! فليأكلوا كعكًا أو بسكويتًا أو حتى جاتوه!! هؤلاء الرعاع لديهم حقا تعنتات وتحكمات عجيبة!!
هكذا ببلاهة كان رد (ماري أنطوانيت) على مطلب الفلاحين في قصة شهيرة من قصص عديدة نسجت حول آخر ملكات فرنسا والتي قيل أن هذه الكلمات المستهترة كانت طريقها إلى أن تستقر رقبتها بعد فترة قصيرة تحت نصل المقصلة التي أطاحت برأسها ومعه الملكية الفرنسية.
ولقد قيل أيضًا أن هذه الرواية تحمل مبالغات رمزية وخيالا تطوعت بصياغته قريحة (جان جاك روسو) الذي تنسب إليه الرواية لبيان مدى انفصال البلاط الفرنسي عن فهم هموم الشعب الفقير.. قصة تلخص ما لا يدركه المنعزلون عن هموم الناس ومشاعرهم ومن يظنون أن المشكلة فقط تنحصر في خبز وجاتوه..
الخبز مهم بلا شك.. تلك حقيقة واقعة لا ينكرها عاقل، وهل يحيا أحد بدون الخبز؟!
طبعًا الخبز هنا كناية عن الحد الأدنى من الطعام الذي يقيم أود الإنسان؛ وإلا فلا شك أن الإنسان قد يستعيض عن الخبز بما هو أشهى وألذ.. لكن يظل الخبز هو العلامة والمثال..
لقمة العيش.. كسرة من رغيف محترق الأطراف تقي الفقير وطأة الجوع بغموس أو من غير غموس.. لن يموت من الجوع من يجد تلك الكسرة وبحَسْب ابن آدم لُقيمات يقمن صلبه
حسنًا..
بها لن يموت
لكن هل بها فقط يحيا؟!
هذا هو السؤال..
الحقيقة أنه سيحيا.. لكن أي حياة؟!
تلك هي المعضلة؛ ربما يحيا الإنسان بتلك اللقيمات، وربما يتنازل عن كرامته وحريته وحقوقه وأحيانًا مبادئه لأجل أن يوفرها لنفسه أو لأبنائه، وغالبا سينجح في هذا.. على الأقل في بلادنا التي لم تصل بفضل الله إلى حد المجاعة.. سينجح بإذن الله في توفير كسرات الخبز ولقيمات العيش فما فوقها وسيمر اليوم وتمضي الليلة ولن يموت من الجوع..
لكن هل هو حيٌ فعلا؟!
هل تلك اللقيمات المغمسة بعصير الهوان ودموع الظلم وإدام الذل وحساء الخوف هي حقا لقيمات تحيي؟!
وهل هذه هي الحياة التي تريدها الشعوب؟!
تلك اللقيمات الكسيرة ربما تُحيِي البدن لكن بإدام الظلم وغموس الهوان والقيد فإنها في النهاية ستميت الروح وتقتل الإباء وتأد العزة والكرامة
لم يكن شعار ثورتنا منذ أعوام هو الخبز فقط..
لم تصدع حناجرنا بالهتاف ضد الظالم لأجل لقمة عيش وحسب
لقد هتفنا وصدعنا: (عيش.. حرية.. عدالة.. كرامة)
لم تكن كالثورة الفرنسية تطلب الخبز بشكل مصمت كما أشار لذلك سير هربرت جورج ويلز فى كتابه (معالم من تاريخ الإنسانية)، ولم تكن قضيتنا هي بطوننا وحسب؛ فالحقيقة أن كثيرًا ممن صدعوا لم يعانوا من مشكلة فعلية مع الخبز و إن حملوا هم من يعاني من تلك المشكلة.
لكنها كانت قيمًا متكاملة أقرها الوحي المنزل قبل مئات الأعوام.. {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3، 4].
أن يأمن الإنسان على حياته وكرامته وإنسانيته، وألا يخاف...
ليس الطعام فقط هو المنة إذًا؛ بل في الحياة أشياء أخرى...
أشياء بخلاف الطعام والشراب والمادة التي ينغمس فيها الغافلون الذين شبههم الله بالأنعام: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12].
البعض اليوم يصر على الانغماس في مثل تلك المادية المفرطة والإغراق في لفت أنظار الناس إليها وإشغالهم بها حتى يصير مثلهم في النهاية كمثل أقوام "لتجدنهم أحرص الناس على حياة"
أي حياة.. أي خبز به يحيا الإنسان، وبمثله من العلف يحيا الحيوان!!
لكن هل يسألون أنفسهم ما صفة تلك الحياة وخصائصها؟ وبما يغمسون ذلك الخبز؟
ليس مهمًا.. المهم أن يكون خبزًا وتكون حياة والسلام..
فأي خبزٍ.. وأي حياة..
(من كتابي الجديد تحت الطبع أنماط)
- التصنيف: