أنماط - (64) نمط (السَّبَّابِ) الرداحِ
لا يوجد منطق فى الدنيا يقول أنه إذا سرق أشقر، فكل الشقر لا بد أن يُعيروا بفعله، أو لو ارتشى أسمر، فكل السُمر مرتشون، لا أحد يجرؤ أن يقول هذا ولا حتى (السبابات) الرداحات فى الحوارى والأزقة.
بعد تخرجي بفترة قصيرة؛ قُدر لي أن أعمل فى إحدى العيادات الشعبية القابعة، فى منطقة فقيرة للغاية، تتسم بوجود عدد كبير من البلطجية، والبلطجيات،
وكلمة (البلطجيات): هى اصطلاح مخفف للاسم الذى يطلق على هذا النوع من النسوة فى تلك المناطق، وهو لفظ لا أُفضل كتابته، وإن كنت أظن أن القارىء الكريم سيدرك مغزاه، خصوصًا من عاشوا أو احتكوا بتلك الأماكن، وعرفوا جيدًا هذا الصنف من النساء، الذى يُستعان به فى التشهير، أو ما يسمى فى الاصطلاح الشعبى بـ(الردح).
فى إحدى الليالي؛ وبينما أنا منهمك في حشو ضرس أحد مرضاي، وتركيزي منصب بأكمله على فم المريض، إذ قطعت -ذلك التركيز فجأة- وصلة من (السباب) الردح، وجدت صداها يدوى فى الشارع الفقير، الذى تقع فيه العيادة التى أعمل بها.
الحقيقة لقد كانت أول مرة فى حياتى أتصور أنه يمكن أن تبلغ الشتائم والسباب هذا المبلغ، لقد كانت شتائم مفصلة، ومتعمقة، لدرجة مذهلة، تصل إلى أدق أسرار البيوت.
إنها إذًا (عَركة) خناقة بين (سبابة) رداحة وأخرى.
فى لحظات اجتمع أهل المنطقة، وقام المريض، والحكيمات؛ ليشاهدوا بشغف هذه الفقرة المفاجئة بالنسبة لي، رغم أن الحي الذي نشأت فيه لم يكن اقتصاديًا مرتفع المستوى كثيرًا عن هذا الحي، إلا أنه لم يصل أخلاقيًا -قط- إلى تلك الدركات، والتى بدا من رد فعل المرضى والممرضات أنها معتادة بالنسبة لهم، ولم تُسبب لهم أي نوع من الاستغراب أو الدهشة، ولم تُحرك لهم ساكنًا أو تغري أحدهم بالتدخل للتهدئة، أو (الفصل بينهم) التحجيز مثلًا.
(أي فصل يا دكتور، أتريدهم أن يتركوا سبابهما، ويسبوننا نحن).
تحجيز إيه يا دكتور! إنت عايزهم يسيبوا خناق بعض، ويردحوا لنا إحنا.
هكذا كانت الإجابة عن سؤالي؛ لماذا لا يتدخل أحد؟
كل ما يمكن أن تتخيله، أو لا تتخيله من السباب الإباحي، والإهانة، والتعيير؛ كان موجودًا فى تلك (العَركة) الخناقة، التى استمرت لساعة، أو أكثر، سردت فيها كل (سبابة) رداحة تاريخًا مُشينًا للأخرى، ولأهلها، وأقارب أهلها، وأقارب أقارب (من أتوا بأهلها) اللى جابوا أهلها.
ما لفت نظري في المقام الأول حينها؛ لم يكن مدى فُحش القول فيها، ولا ذلك السباب المسجوع، والمنمق، الذى يشعرك أنه نوع من الزجل الشعبى، اجتذب ضحكات، وابتسامات بعض المتفرجين من أبناء الحي.
إن ما لفت نظري -حقًا- أن نسبة كبيرة من المعايرة (مصدر عَايَرَ) فى تلك المشاجرة لم يكن للطرفين دخل فيه، لقد سردت كل (سبابة) رداحة وقائع زعمت أن أقارب أو جيران الأخرى وقعوا فيها، ثم عَيَّرَتْهَا بها.
- (يا من فعل أخوك، وفعل وفعل) "يللا يا اللي أخوكي عمل وسوى".
- (اسكتي يا من فعلت أختك المشين وفعلت) "إسكتي يااللي أختك نيلت كذا وكذا".
- (اسكتي يا من عائلتكم كيت وكيت) "بس يا اللي عيلتكم كلها كيت وكيت وكيت".
-(اسكتي يا من ابنة خالة أبيك تعمل في كذا وكذا) "اخرسي يا اللي بنت عمة خالة أبوكي بتشتغل كذا وكذا وكذا"
وهكذا وهكذا.
دار الجزء الأكبر من المعركة الردحية الطاحنة حول التعيير بأفعال الغير، تذكرت هذه الواقعة، وهذه الملحوظة، وأنا أشهد اليوم تلك الثقافة؛ ثقافة التعيير أعني، والتي قد صارت علامة مميزة على تعاملاتنا المعاصرة.
حينما تتكلم فى مسألة، أو تكتب عن فكرة، أو تطرح طرحًا، فتفاجأ بمن يقف لك قائلًا: (هيا يا أتباع فلان الفلاني) "يللا يا بتوع (فلان الفلاني) الذي فعل....، (اسكتوا يا أصحاب فلان الفلاني) بس يا رفاق (علان العلاني) الذي سوى، اسكت يا شبيه (ترتان الترتاني) الذي فعل كذا وكذا".
ستجد صديقنا (السباب) الرداح المعاصر يستحضر كل ما يذكره من أمور تَوَرَّط فيها، أو نُسِبْتَ لبعض من انتسب لنفس الفكر، أو التيار الذي ينتمي إليه محاوره.
تعجب حين تجد بعض من يُفترض بهم أنهم مثقفون، أو عقلاء، يتقمصون شخصية (السبابة) الرداحة فى كتاباتهم، أو حواراتهم، مصدرين نقدهم للفكرة، أو للمشروع، بأخطاء نُسِبَت لبعض الأتباع، سواء صَحَّت أم لم تصح، ليس ذلك موضوعنا، فلا يوجد أى منطق شرعى، أو حتى إنسانى بسيط، يُجيز ذلك.
إن (السبابتين) الرداحتين اللتين صَدَّرْتُ مقالي بقصتهما رغم فُحش الخلق الذى تمتعتا به؛ إلا أن كل واحدة منهما حرصت فى معايرتها للأخرى أن تأتى بذكر أقارب لها، أو أناس لها علاقة مباشرة بهم، لكن واحدة منهن -مثلًا- لم تعير الأخرى بفعل امرأة لا تعرفها، تشبهها فى الشكل، أو اللون، أو فى الوزن مثلًا.
لا يوجد منطق فى الدنيا يقول أنه إذا سرق أشقر، فكل الشقر لا بد أن يُعيروا بفعله، أو لو ارتشى أسمر، فكل السُمر مرتشون، لا أحد يجرؤ أن يقول هذا ولا حتى (السبابات) الرداحات فى الحوارى والأزقة.
لكن للأسف بعض العقلاء يستحلون ذلك دون استحياء، قد يكون الأمر به بعض المنطق، لو أن المنهج الذى يزعم المخطىء انتماءه إليه يدعو للرذيلة، أو يُنظّر للكذب، فيكون الأمر حينئذ نقد لمنهج هدام، أو مفسد، لكن منذ متى كان سوء تطبيق أو فهم البعض داعيًا لهدم الأصل، ومحاسبة الكل؟!
العجيب أن بعض أصحاب ثقافة التعيير؛ هم ومناهجهم؛ أو أيديولوجياتهم؛ أكثر من سيخسر إن كانت هذه هى القاعدة المتبعة.
حينئذ سَيُعَيَّرُ الليبراليين بتلك الفتاة التى نشرت صورها متعرية، زاعمة أن تلك هى الحرية، أو تلك المخرجة التى دعت لترخيص الدعارة، وربما يُعَيَّرُ الاشتراكيين (بمذابح لينين وستالين) وسَيُعَيَّرُ الديموقراطيين بجرائم أمريكا بسجن أبي غريب في العراق، أو جرائمها في أفغانستان والصومال، وهكذا.
ولو أن أتباع المذاهب والأديان عُيِّرُوا بخطايا أتباعهم فستحضر إلى الأذهان صور معروفة، وفضائح مشهورة، لبعض رموز هذا المذهب أو ذاك الدين، فهل يُتصور أن يعير كل أتباع الملة، أو المذهب بأفعال بعض أتباعها.
الأمر بهذه الطريقة سيتردى إلى مهاوٍ سحيقة، لا توجد لها أي علاقة بتلك القاعدة النورانية العظيمة.
قاعدة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الأنعام:164].
ذلكم المبدأ المنطقي البسيط؛ الذي هو على الرغم من بساطته ووضوحه وبدهيته، صار يغيب عن أذهان كثير من الناس اليوم، فيعتمدون خطاب الجمع، والتعميم، ويختارون ثقافة السَلة الواحدة؛ التي هي ثقافة مريحة -بلا شك-، لكنها راحة الاستسهال، واطمئنان التنطع والكسل.
فلماذا ينفق الظالم شيئًا من وقته وفكره في التفصيل والإنصاف؟ بينما هو يستطيع أن يلقي الجميع في سلة واحدة و(ينتهي) يخلص.
وإن ذكرته بأنه {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164]، وأن {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وأن {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، و« » (صحيح الجامع:1066)، وسائر تلك الأدلة القرآنية والنبوية الناصعة التي تبرق بنور الإنصاف والعدل، فإن تذكيرك هذا سيصطدم بحواجز مصمتة، وضعها على عينيه، وأذنيه، مروجو تلك الثقافة؛ ثقافة السلة الواحدة، والتعميم المقيت، ومبدأ السيئة تَعُمُّ، والعقوبة على المشاع.
ولو أتعب -أولئك- المستسهلون ذلك العضو الذي وُضع في جماجمهم، وأمروه بالتفكير هنيهة في مآل تلك الطريقة، لحقروا أنفسهم، ولربما لم يتمالكوا أنفسهم من الضحك على سطحية رؤيتهم، وسماجة مبدئهم، ثم لا يلبث ضحكهم إلا وينقلب إلى بكاء حين يكتشفون مدى الظلم والغبن؛ الذي دفعهم إليه شنئان قوم.
حين يتفكرون للحظات كيف يحاسب كل أسمر على خطيئة من يشاركه لونه؟! وكيف يعاقب كل أشقر على جريمة ارتكبها شبيهه، ولماذا يُلام سمين على كل ذنب اقترفه سمين مثله.
مشهد هزلي -هو- لكنه للأسف يحدث يوميًا، مجرد أن تسمع أو تقرأ لإنسان يتكلم مهاجمًا مخالفه بصيغة الجمع قائلًا: "أنتم فعلتم، ودبرتم"، تعلم حينئذ أنك بصدد أحد أبناء تلك الثقافة؛ ثقافة التعميم المريح، ومبدأ امتداد العقوبة؛ ذلك المبدأ الذي حَذَّرَ منه نبي الله يوسف عليه السلام بكل وضوح؛ حين عرض عليه إخوته أن يأخذ أحدهم بدلًا من أخيهم بنيامين فقال: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ} [يوسف:79].
وأيضًا قالها ذو القرنين حين استنجد به أقوام ليعاقب ظالميهم؛ فقال: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} [الكهف:87].
هذا هو الأصل؛ وتلك هي القاعدة الشرعية الواضحة، حتى على مستوى الأعراف البشرية الطبيعية، باستثناء الحقب الفاشية، والأمم القائمة على التطهير العرقي، والإبادة الطائفية، فإن رَفض ذلك المبدأ التعميمي الجائر هو الأصل.
بل إن هناك دولًا تعد ذلك الخطاب ومآلاته نوعًا من التمييز والعنصرية، وربما تُخضع مرتكبيها لعقوبات شديدة تردعهم عن هذا الظلم المقزز، والأحمق في الوقت نفسه.
بينما المنصفون في كل زمان ومكان لا يجرمنهم شنئان، ولا يستخفنهم بهتان، ولا يعممون طغيان، بل يفصلون ويميزون ويفرقون بين الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، ويرفعون دومًا ذلك الشعار القرآني الجليل: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113].
ولو افترضنا جدلًا وقوع الخطأ من أي مخلوق غير معصوم، فإن المحاسبة تكون من نصيب مقترفيه، والعقوبة يعلوها مبدأ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}، حتى المنطق الشعبى البسيط الذى يظهر من الأمثال والحكم العامية لا يرضى بذلك التعميم الجائر، فتجد أدبيات لطيفة ترفض ثقافة التعميم، مثل قولهم: (أصابعك ليست كلها متشابهة) "صوابعك مش زى بعضيها" و(كل واحد معلق من عرقوبه) "كل واحد متعلق من عرقوبه".
لكن بالطبع هذا المنطق لا يستقيم لدى تلك (السبابة) الرداحة وزميلتها، في ذلك الحي الشعبي.
وكذلك لا يستقيم لدى كل من استخدم ثقافة (السب) الردح في تعامله مع المخالفين له.
وفي النهاية مهما تنكر بقناع نخبوي، أو تدثرت بدثار المثقفة، ما داما قد انحدرا لأسلوب التعيير، و(فرش الملاءة)؛ فما هما إلا نماذج أكثر أناقة من ذلك الصنف.
ما هما في النهاية إلا (سَبَّاب) ردّاح، و(سَبَّابة) ردّاحة.
- التصنيف: