الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف - (5) فرع مهم في بيان الفرق بين البدعة والمصالح المرسلة

منذ 2015-01-17

إن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة وإجراء الأحكام الخمسة عليها هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي.

اعلم أخي المسلم فقهني الله وإياك في دينه أنه قد تسلل إلى حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم في التشريع النافع المزكي للنفس المطهر للروح المهيء للمسلم السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، تسلل إليه أناس تحت شعار ما يسمونه بالبدعة الحسنة، فوضعوا للمسلمين من البدع ما أماتوا به السنن، وأغرقوا أمة القرآن والسنة في بحور من البدعة، الأمر الذي انحرف به أكثر أمة الإسلام عن طريق الحق وسنن الرشاد وما هذه المذاهب المتطاحنة المتناحرة، والطرق المختلفة المتباينة إلا مظهر من مظاهر الانحراف في الأمة نتيجة استحسان البدع، وإطلاق وصف الحسن على البدعة فيبتدع الرجل بدعا يضاد بها سنن الهدى ويصفها بالحسن فيقول عند ترويج بدعته هذه بدعة حسنة لتؤخذ عنه وتقبل منه، في حين أنه من المضادة للشارع صلى الله عليه وسلم أن يقال بدعة حسنة بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»[1]، ومع الأسف فقد انخدع بعض أهل العلم لهذا التضليل المتحايل على حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم في التشريع فقال: إن البدعة تجري عليها الأحكام الشرعية الخمسة من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرام، وقد تفطن لهذا الإمام الشاطبي رحمه الله، وإليك رده على هذا التقسيم، وإنكاره وجود بدعة حسنة في دين الله تعالى قال رحمه الله تعالى:[2] "إن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة وإجراء الأحكام الخمسة عليها هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثَمَّ بدعة، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها، أو الْمُخَيَّرِ فيها؛ فالجمع بين عد تلك الأشياء بدعا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متناقضين!"

أخي القارئ أرأيت كيف أنكر الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى أن تكون البدعة حسنة والرسول يقول فيها: ضلالة. وكيف أنكر على من زعم أن البدعة تجري عليها الأحكام الخمسة[3] بمعنى أنها تكون واجبة أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة، إذ لو دل عليها دليل الشرع لما كانت بدعة، إذ البدعة هي ما لم يدل عليه دليل الشرع من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، فإن دل عليها الدليل الشرعي أصبحت دينا وسنة لا بدعة "فافهم"، وإن قلت: كيف تطرق هذا الخطأ إلى علماء أجلة أفاضل كالقرافي مثلا، فقالوا بإجراء الأحكام الخمسة على البدعة؟ قلت لك: إن سبب ذلك الغفلة، واشتباه المصالح المرسلة بالبدع المحدثة، وهذا بيان ذلك:

إن المصالح المرسلة جمع مصلحة، وهي ما جلبت خيرا أو دفعت ضيرا ولم يوجد في الشريعة ما يدل على ثبوتها أو نفيها، وهذا معنى "مرسلة" أي لم تقيد في الشريعة باعتبار أو إلغاء ولذا عَرَّفَهَا بعضهم بقوله: المصالح المرسلة كل منفعة داخلة في مقاصد الشرع دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء ومعنى قوله: داخلة في مقاصد الشرع. يريد أن يقول: إن الشريعة قائمة على أساس جلب المنافع ودرء المفاسد.

فما حقق للمسلم خيرا أو دفع عنه شرا جاز للمسلم استعماله بشرط أن لا يكون قد ألغاه الشارع لما فيه من مفسدة جلية أو خفية، فليس من حق امرأة أن تزني لما يحصل لها من المنفعة المادية، لأن هذه الوسيلة كالمنفعة المتوسل إليها قد ألغاها الشارع وأبطلها.

كما ليس من حق المرء أن يتوسل إلى جلب ثروة أو تحقيق مطلب من مطالبه الشخصية بالكذب أو الخيانة أو الربا؟ لأن هذه المصالح قد ألغاها الشارع ولم يعتبرها لمنافاتها لمقاصده الكبرى في الجمع بين سعادة الروح والجسد معا.

ومن أمثلة ما اعتبره الشارع: تحريم الحشيشة فإنها وإن لم ينص على تحريمها داخلة في تحريم الخمر، فلا يقال تحريم الحشيشة من المصالح المرسلة؟ لأن الشارع حرم الخمر لما فيها من ضرر والحشيشة كذلك فهي محرمة بالاعتبار الشرعي لا بوصفها مصلحة تحقق بها دفع شر عن المسلم.

ومن ذلك إلزام المفتى الغنيَّ بالصيام في الكفارة لكون العتق أو الإطعام أهون عليه، فنظرا إلى مصلحة الشريعة حتى لا يتجرأ على انتهاكها الموسرون من أهل الثروة والمال أُلْزِمَ الْغَنِيُّ بالصيام، فهذه المصلحة باطلة، لأن الشارع قد اعتبر إلغاءها، والمصالح المرسلة ما لم يشهد لها الشارع باعتبار أو إلغاء، وهنا الشارع قد شهد لهذه بالإلغاء حيث لم يأذن بالصيـام إلا عنـد العجز عن العتق أو الإطعام، قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة من الآية:89].

ومثل كفارة اليمين هذه كفارة الجماع في نهار رمضان فليس من حق المفتي أن يفتي بالصيام دون العتق أو الإطعام واعلم أيها القارئ أن المصالح المرسلة والتي يسميها مروجو البدع بالبدعة الحسنة. تكون في الضروريات والحاجيات والتحسينات أي فيما هو ضروري لحياة الفرد والجماعة، أو فيما هو حاجة من حاجات الفرد أو الجماعة وإن لم يكن ضروريا لهما، أو فيما هو من باب الكماليات والتحسينات فقط فليس هو بضروري ولا حاجي. وعلى سبيل المثال لا الحصر كتابة المصحف الكريم وجمع القرآن العظيم على عهد كل من أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما فليس هذا العمل من باب البدعة[5]، وإنما هو من باب المصالح المرسلة، إذ حفظ القرآن من الزيادة والنقصان والمحافظة عليه حتى يرده الله إليه في آخر الحياة واجب على المسلمين فلما خافوا عليه الضياع؛ بحثوا عن وسيلة تحقق لهم ذلك فهداهم الله تعالى إلى جمعه وكتابته فكان عملهما هذا مصلحة مرسلة إذ لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إلغاء، وإنما هو من مقاصده العامة فهل لأحد أن يقول إن هذا العمل بدعة حسنة أو سيئة؟ لا، بل هو من المصالح المرسلة الضرورية.

ومثال المصالح المرسلة الحاجية اتخاذ المحاريب في قبلة المسجد، إذ لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم محاريب في المساجد، وإنما لما انتشر الإسلام وكثر المسلمون وأصبح الرجل يدخل المسجد فيسأل عن القبلة وقد لا يجد من يسأل فيحتار في شأن القبلة فدعت الحاجة إلى وضع طاق في قبلة المسجد يهتدي به الغريب إلى القبلة، ومثل هذا زيادة عثمان الأذان الأول لصلاة الجمعة فإنه لما عظمت المدينة وأصبحت عاصمة الإسلام واتسعت دورها وأسواقها رأى عثمان رضي الله عنه أن يؤذن للناس قبيل الوقت لينبههم وهم في غفلة البيع والشراء فإذا جاءوا ودخل الوقت أذن المؤذن وقام فخطب الناس وصلى بهم. فهذا ليس من الابتداع إذ الأذان مشروع للصلاة، وقد يؤذن لصلاة الصبح بأذانين أيضا، وإنما هو من المصالح المرسلة التي فيها نفع المسلمين وإن لم تكن من ضرورياتهم، ولكنها تحقق لهم نفعا ما بتنبيههم إلى قرب دخول وقت الصلاة الواجب عليهم حضورها ولما كان الشارع لم يشهد لمسألة المحراب أو الأذان باعتبار ولا إلغاء، وكانت المسألتان تدخلان في مقاصد الشرع صح أن يقال إنهما من المصالح المرسلة، فالأولى من الحاجيات والثانية من التحسينات والكماليات.

ومن هذه المصالح المرسلة التي غالط فيها بعض أهل العلم أو غلطوا فيها وادعوا أنها بدعة حسنة. وقاسوا عليها كثيرا من البدع المنهي عنها: بناء المنارات والمآذن في المساجد لإبلاغ صوت المؤذن إلى أطراف المدن والقرى إعلاما لهم بدخول الوقت أو قربه. وكالمآذن اتخاذ مكبرات الصوت لسماع خطبة الإمام وقراءته وتكبيره في الصلاة، وكذا قراءة القرآن جماعية في الكتاتيب من أجل حفظ القرآن[6]، فهذه من المصالح المرسلة التي لم يشهد الشارع لها باعتبار ولا إلغاء ولكنها داخلة في مقاصده العامة فليس من حق أحد أن يقول فيها أنها بدع حسنة ويقيس عليها ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الابتداع في الدين بقوله: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»[7].

وخلاصة القول أيها القارئ أن المصالح المرسلة لا تراد ولا تقصد لذاتها، وإنما تراد وسيلة لحفظ واجب أو أدائه، أو درء مفسدة، أو تجنبها أما البدع فإنها تشريع يضاهى به شرع الله مقصود لذاته، لا وسيلة لغيره من جلب نفع أو دفع ضر، والتشريع المقصود بذاته من حق الله تعالى وحده، إذ غير الله عز وجل لا يقدر على وضع عبادة تؤثر في النفس البشرية، بالتطهير والتزكية وما الإنسان بأهل لذلك أبدا. وعليه فليلزم المرء حده وليطلب ما هو له، وليترك ما ليس له فإن ذاك خير له وأسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (مسلم (الجمعة [867])، (النسائي (صلاة العيدين [1578])، (ابن ماجه (المقدمة [45])، (أحمد [3/311])، (الدارمي (المقدمة [206]).

(2) (كتاب الموافقات ج [1] ص [191]).

(3) نقل هذا القرافي في فروقه وانخدع له مع الأسف.

(4) مع أن هذا يعد من سنة الخلفاء الراشدين التي أمرنا باتباعها.

(5) هذه المسألة كثر فيها القيل والقال في بلاد المغرب الأدنى والأوسط والأقصى أي تونس والجزائر والمغرب (مراكش) يقرءون ما يسمونه بالحزب، دبر بعض الصلوات الخمس وهي قراءة جماعية بصوت واحد وهي هيئة قراءة محدثة فنظر فيها بعض أهل العلم فقال بمنعها لأن الهيئة محدثة لم تكن معروفة على عهد السلف، ونظر إليها بعضهم فأجازهم لأنها وسيلة لحفظ القرآن. وما قلته أنا لأهل تلك البلاد كان جمعا بين النظرين وهو: إن كان المراد من هذه القراءة الجماعية التعبد فلا تصح لأنها محدثة، وإن كان المراد منها المحافظة على القرآن حتى لا يضيع بينهم فهي من المصالح المرسلة التي يجيزها أكثر أهل العلم، والله أعلم.

(6) ((مسلم (الجمعة [867])، (النسائي (صلاة العيدين [1578])، (ابن ماجه (المقدمة [45])، (أحمد [3/311])، (الدارمي (المقدمة [206])).

المصدر: كتاب الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف

أبو بكر جابر الجزائري

مدرس بالمسجد النبوي وعضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية سابقا

  • 5
  • 0
  • 18,921
المقال السابق
(4) تتمة نافعة في بيان السنة والبدعة
المقال التالي
(6) الموالد عامة وحكم الإسلام عليها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً