رقية الزنا

منذ 2015-01-28

فقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر؛ حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً حتى أصبحت هذه المعاصي مبعثاً للتفاخر والتباهي، وسبيلاً إلى التقدم والثناء.

الخطبة الأولى:

وبعد:

فقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر؛ حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً حتى أصبحت هذه المعاصي مبعثاً للتفاخر والتباهي، وسبيلاً إلى التقدم والثناء.

ومن كان بالأمس سفيهاً فاسقاً مردود الشهادة أصبح اليوم علماً بارزاً عملاقاً مجاهداً فعلاً وقدوة، بل حتى المسلَّمات والضرورات المعلومات طويت وأهملت لئلا تكدر على الناس نشوتهم، وتوقظهم من غفلتهم، وتفيقهم من سكرتهم، فبينما كانت الشهادتان والتوفيق إليها عند الممات علامة الفلاح والنماء غدا "دام الأمل موجود، فالنفس خضاعة" مبعث شرف وانتحار عنوان حسن ختام!!

وبينما كانت الأمم والشعوب تحيا وتعرف بدينها وعقيدتها، وجهادها وعطائها أصبحت لا تعرف إلا من خلال فنونها وإبداعاتها الفنية وفقط!!

وكيف يصح في الأذهان شيء *** وقد احتاج النهار إلى دليل؟!

نعم، فقد احتاج النهار إلى دليل، احتاجت الأمة إلى دليل على حرمة الغناء على هذه الصورة المعهودة اليوم، والتي لا يماري فيها أحد من أهل الإسلام، وها كم كلام أهل العلم في غناء لا يشبه غناء اليوم إلا في اسمه فقط، ولم تجتمع فيه هذه المنكرات التي يكفي أحدها منفرداً لتحريمه.

أما الإمام مالك - رحمه الله - فسئل عما يرخّص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.

وأما أصحاب أبي حنيفة فصرحوا بتحريم سماع الملاهي كلها، وأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، بل قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم كما نقله ابن القيم عنهم، وأما الإمام أحمد فقال فيه: ينبت النفق في القلب، وأما الشافعي فقال فيه: "إن الغناء مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته"، وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه.

وما نقل من الخلاف عن بعض أهل العلم فإنما هو في الغناء المجرد عن المعازف، أما الغناء الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريمه، حيث قال في فتاواه: "وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عند أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف، أنه أباح هذا السماع، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد..".

بل تواتر عن الشافعي أنه قال: "خلّفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن".

فإذا كان هذا قوله في التغبير وهو شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه، وتعليله: أنه يصد عن القرآن!! فترى ماذا يقول الشافعي في غناء اليوم؟!

وهذا قولهم في سماعه من الرجال، أما سماعه من المرأة الأجنبية فمن أعظم المحرمات وأشدها فساداً للدين.

قال الشافعي: "وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته"، وقال: "هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثاً".

قال ابن القيم: "فلعمر الله كم من حُرّة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا..".

شبهة وردها:

وكما هو شأن كل مبطل، وديدن كل صاحب هوى وزيغ يدع المحكم الصريح للمتشابه، فيغفل النصوص الواضحات والأدلة المحكمات ويتذرع بشبهة دليل في غير ما مسألته ولا حقيقتها، ومن ذاك احتجاجهم على جواز الغناء على هذه الصورة المعلومة المعروفة بما جاء في الصحيحين من قوله لأبي بكر لما نهر الجاريتين وقال لهما: مزمار الشيطان عند النبي فقال له: دعمهما.. فلم ينكر عليه تسمية الغناء مزمار الشيطان، وتركهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بيوم بُعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم عيد.

يقول ابن القيم: "فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية، أو صبي أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغني بما يدعو إلى الزنى والفجور وشرب الخمور مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله في عدة أحاديث مع التصفيق والرقص، وتلك الهيئة المنكرات التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان فضلاً عن أهل العلم والإيمان...".

وقال رجل لابن عباس: ما تقول في الغناء أحلال هذا أم حرام؟ فقال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.

قال ابن القيم: "فهذا جواب ابن عباس - رضي الله عنهما - عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول؛ فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته.

فمن أبطل الباطل أن تأتي الشريعة بإباحته، فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله على النكاح...".

فمن أسمائه رُقية الزنا، كما قال الفضيل، وقال يزيد بن الوليد: "يا بني أمية إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنى".

وقال ابن القيم فيه: وأكثر ما يُورث عشق الصدور، واستحسان الفواحش.

* وأما آثاره وأسماؤه الأخرى فكثيرة جداً:

فهو اللهو واللغو، والباطل والزور، والمكاء والتصدية، وقرآن الشيطان ومُنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق والصوت الفاجر.

أسماؤه دلت على أوصافه *** تباً لذي الأسماء والأوصاف

فهو اللهو: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث...).

قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس وغيرهما.

قال ابن القيم: "إنك لا تجد أحداً غُني بالغناء، وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، وهو الزور واللغو: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً)، قال محمد بن الحنفية: الزور هنا الغناء، والزور يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، والمحل، وهو مُنبت النفاق: قال ابن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع".

قال ابن القيم في توجيه ذلك: "وسر المسألة أنه قرآن الشيطان كما سيأتي فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبداً، وأيضاً: فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، وأيضاً: فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل وعمل الغي، وهذا ينبت على الغناء.

وأيضاً فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام للصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه.

وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يُحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويُقبح الحسن ويزهّد فيه وذلك عين النفاق.

وهو صوت الشيطان وقرآنه: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك)، قال مجاهد: "وصوته: الغناء والباطل".

وقد كان يكفي الأمة المسلمة الموحدة المحبة لرسولها المتبعة لطريقته أن تسمع قوله: محذراً أمته من المعازف واستحلالها قد كان يكفيها ذلك لتمتثل وتقول: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف))، والحديث أخرجه البخاري تعليقاً وجزم به، ومعلوم عند أهل العلم أنه لا يجزم إلا بما صح وصله عنده، وقد وصله غيره.

فتأمل كيف قرن بين استحلال الحِر، وهو الفرج كناية عن الزنا، وبين استحلال المعازف، وإذا كان الكثيرون اليوم لا يستحلون الزنا صراحة فلا عجب أن يأتي ذلك الزمان الذي يستحل فيه صراحة، وقد نعقت أبواقهم بمقدمات ذلك تحت مسميات عدة.

وهذا أمر خطير ونذير شؤم على الجميع إذ به تتعرض الأمة لغضب ربها وسخطه وعذابه الأليم كما قال، فيما رواه عنه الترمذي وصححه الألباني من حديث عائشة: ((ليكونن في أمتي قذف ومسخ وخسف))، قيل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشرب الخمر)).

والقيان جمع قينة، وهي المرأة المغنية.

ولكن ماذا تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يتعظون ولا هم يتذكرون؟!.

(أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون).

ولكن لسان حالهم وربما مقالهم يقول: (قد مس آباءنا الضراء والسراء).

وصدق الله: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)، ولا نعني بذلك تكفير أهل الكبائر والمعاصي، ولكنها دركات ودرجات ومشابهة القوم في أخلاقهم تورث منازلهم وكما قيل: المعاصي بريد الكفر.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

إخوة الإسلام: إن مكمن البلاء ليس في انتشار الداء فحسب، ليس في وجود أصل المرض فحسب، ولكن في غفلة المريض عنه بل أشد من ذلك إذا ظن نفسه هو الصحيح وغيره هو السقيم.

وهذا هو حال الأمة اليوم إلا من رحم الله تبدلت فيها المفاهيم وتغيرت القيم، وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وأصبح اللاهون والفاسقون هم قدوة الأمة وعنوان مجدها، وهم نجومها وسفراءها.

وبينما كان الغناء هو شعار الفساق عندما كانت أمة مجاهدة عزيزة تجوب الأرض شرفاً وغرباً رافعة راية "لا إله إلا الله".

فإذا به اليوم -والأمة تلهث وراء شهواتها وأهوائها، وتتسول موائد أعدائها، وتقدم أبناءها ومقدساتها قرباناً لآلهتها- إذا به اليوم عنوان التقدم وشعار الرقي ودثاره.

وبينما كان المجاهد والشهيد من يجود بنفسه في سبيل الله، وانتصاراً للدين في ميدان المعركة إذا به اليوم من يموت محتضناً عوده على خشبة المسرح!!.

وبينما كانت الأمة تحزن لموت علمائها ودعاتها وصالحيها، إذا بها توجه لرثاء فاسقيها وماجنيها. وصدق المصطفى: ((.. حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)).

إخوة الإسلام: إن الأمر جد خطير، ويحتاج وقفة قوية مع هذا الإعلام والقائمين عليه؛ والذي يحاول صياغة الأمة وتنشئة أبنائها على غير دينها وعقيدتها، ويرسخ في حس أبنائها وأطفالها نماذج للبطولة الزائفة والقدوة المشوهة.

وبينما كان أبناء المسلمين يتعلمون سيرة أسامة وخباب، ومصعب وابن الزبير، فيخرج منه قادة العالم وفاتحوه.

إذا بهم يتعلمون سيرة الفنان والفنانة، واللاعب والمطربة، فيخرج منهم مسخ مشوه، وأبطال زائفون يبيعون الأمة ومقدساتها.

بل إنهم يلوون الأمور ويقلبونها ويصورونها على خلاف حقيقتها ودلالتها حتى إذا كان فيها عظة وذكرى لمن كان في قلبه بقية إيمان أتوا على هذه البقية.

وإذا كان استقر في حس الأمة أن النطق بالشهادتين عند الوفاة عنوان الفلاح والتوفيق؟

فكان لهؤلاء رأي آخر وإذا كان أهل العلم قديماً وحديثاً يحذرون الأمة من مغبة المعاصي وأثرها عند الوفاة، وأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه، فالشأن عند هؤلاء مختلف ودلالته مختلفة.

بل إنهم يحولون هذه المواقف التي هي داعية توبة وإنابة إلى داعية بث للانحراف والفجور بإشراف أولياء الأمور.

نشرت الصحف قول إحداهن عند موت فنان معروف: "كنت أتمنى أن أتعاون معه كملحن لأنني كنت أعرف جيداً أنه كان يحب صوتي، وأكد لي على ذلك والدي الدكتور"!!.

انظروا كيف أصبح حال الأمة وغيرة رجالاتها وآبائها!!

فالله الله أمة الإسلام وعلماءه ودعاته في دينكم وأمتكم وأمانتكم، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث))، وقد كثر الخبث وطغى وأزبد.

وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً.

وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.

(فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).

ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.


هشام بن محمد برقش

  • 6
  • 0
  • 29,496

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً