على هامش سجال "السيادة"

منذ 2015-01-29

ما أبعد المسافة التي كانت تفصل بين موقع الشريعة من ديمقراطية الأمس، والمسافة التي تفصلها عن ديمقراطية اليوم، فبالأمس كانت الشريعة تمثل مرجعية عليا للمشاركة الديمقراطية، واليوم أضحت مجرد خيار من زمرة خيارات في هذه اللعبة.

صدقاً، ما كنت أرغب في الدخول في هذا السجال، خصوصاً وأنه قد بدأ يطول، وبدأت بوادر السقوط في نكسة التكرار تلوح، وأخشى أن ندخل جميعاً في حلقة مفرغة، يكون فيها التعويل على مجرد المكاثرة والتكرار، وتكون الغلبة لمن يكتب أخيراً، وتضحى فيها العصبيات الشخصية والمجاملات هي المسيطرة على المشهد، دون محاولة جادة لتفهم أطروحات المخالف، والتنزل قبولاً أو رفضاً في مناقشة ما يطرحه من اعتراضات.

حين ترى فصيلاً يطرح إشكالية وتأتيه الاعتراضات مفصلة عن اليمين والشمال ثم تجده يعرض تماماً عن مناقشة تفاصيل هذه الاعتراضات فاعلم أن ثمة مشكلة حقيقية، وليس ينفعه إظهار الابتهاج والفرح بتحريك المياه الساكنة وإثارة النقاش، ثم هو يتمنع عن أداء واجب النقاش بالسماع والجواب.

ليس القصد هنا بطبيعة الحال المطالبة بالتسليم باحتجاجات هذه الطائفة أو تلك لكن الحديث عن ضرورة مناقشة هذه الاحتجاجات والتعاطي معها على الأقل كشبهات تعكر صفو القضية المطروحة، وبالتالي فهي تحتاج لوقفات تجلي الموقف منها صحةً وفساداً، وليس من المعقول أن يعيد طرفٌ استجلاب اجتجاجاته القديمة ليقوم بإعادة طرحها من غير توقفٍ عند الاعتراضات التي قدمت حيالها ليطور من طبيعة الاحتجاج القديم مجيباً عن إشكال الخصم عند طرحها.

حين أقرأ مثلاً استدلال أحدهم: "بأحكام الجزية" وما يترتب عليها من آثار ليخرج لنا بفكرة "سماح الشريعة بعدم تطبيقها" فإنني لا أستطيع أن أخفي عجبي الشديد من هذا الاستدلال، تعظم حالة العجب طبعاً حين يعيد ذات الشخص تكرار ذات الاحتجاج مرة بعد مرة مع توارد الاعتراضات، هذا التصور الغريب لأحكام الجزية والذي يختزلها في ضريبة مالية تدفعها الأمم لقاء إبقاء دارهم على ما هي عليه وإقرار شريعتهم وسيادتهم كما هي هو تصور شديد الغرابة لمن قرأ ولو قليلاً في أحكام الجزية، بل لمن قرأ خاتمة آية الجزية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

فالجزية إنما تؤخذ على أهل الذمة ليعيشوا في كنف الأمة المسلمة وفي ذمتهم أما الدار والشريعة فهي للمسلمين، الدار دار إسلام والشريعة الظاهرة شريعته، فلا أقل مع غرابة هذا الاستدلال وقيام المعارض من تثبيت هذا الاستدلال بالبرهنة والتدليل، لا أن يعاد مرة بعد أخرى وكأن شيئاً لم يكن. هذا مثال واحدٍ فقط من أمثلة كثيرة تعصف بهذا السجال وكأن الحوار إنما هو من طرف واحد، عليه واجبات التدليل وتقديم الإجابات أما الطرف الآخر فلديه كلام يريد أن يقوله ولا يهمه بعد ذلك ماذا قال أو سيقول الطرف المقابل، وراجع تفاصيل مشهد السجال وما قدمه كل طرف من أدلة وجوابات تعلم حجم الإشكال.

إن عملية الاستدلال لا تكون بمجرد تكثير سواد الأدلة، بل لا بد أن تكون منهجية الاستدلال بهذه الأدلة صحيحة أولاً ولا بد من دفع الاعتراضات عنها ثانياً، وليس من المعقول أن يأتي المستدل ليناقش فكرة هيمنة الشريعة وإلزاميتها فيقتصر على سوق طائفة من أدلة "عدم الإكراه" من جنس: (لا إكراه في الدين). (لست عليهم بمصيطر).

ويعرض تماماً عن الطائفة الأخرى من صور الإكراه بحق: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).

والسيرة العملية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في فتوحاتهم، ومحال الإجماع من كلام الفقهاء في تقرير العقوبات على فعل المعاصي وترك الواجبات حتى على مستوى التعبدات الشخصية كإجماعهم على عقوبة تارك الصلاة مثلاً، فإن تغييب الدلائل المضادة للفكرة والإعراض عن مناقشتها ستشكل ولا بد ثغرة كبيرة في تقرير هذه الفكرة خصوصاً إذا كانت هذه الأدلة مبسوطة على لسان الطرف الآخر. أما الاستكثار "بالأدلة المضروبة" من جنس "تولد النفاق من ظاهرة الإلزام" فهي في الحقيقة تزيد القول وهناً بدل تقويته، وقد أحسن الشيخ فهد العجلان في تفكيك هذه الإشكالية وبيان أوجه الاعتراض عليها عبر مقاله الماتع "هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدي إلى النفاق؟" ومع ذلك فلم نجد ممن استدل بهذا الدليل اعتراضاً على ما طرحه الشيخ أو اعترافاً بخطأ هذا الجنس من الاستدلال، وإنما ساد منطق الإعراض، وكأن منطق الصمت كفيل بإبطال اعتراضات الخصم أو هو ضمانة لنسيانها في خضم السجال، وهذا الاستدلال المليء بالثغرات يعبر عن حالة التكثر والتعجل والتشوه في منهجية الاستدلال الذي يمارسها هذا الفصيل في معالجته لقضية كلية خطيرة تتعلق بسيادة الشريعة.

الأكثر إيلاماً حين تمتد حالة التشوه من مجال الاستدلال لتصل إلى نقطة البحث ذاتها فيتشوه البحث كله بسبب محاولات إعادة تعريف محل الإشكال وتطويره بحسب ظروف السجال، ولتتشوه في الطريق أقوال المعترضين حين يصورون -بحسن نية أو سوء نية- وكأنهم جماعة من المغفلين الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، بل ويسجلون اعتراضاتهم على البدهيات والقضايا الواضحة.

نعم، تزداد المشكلة حين تتكاثر حالات الاتهام "بسوء الفهم" للطرف المستقبل للخطاب مع ما معه من علمٍ وذكاءٍ وزكاءٍ ثم لا تجد اعترافاً حقيقياً من مصدر الخطاب بأن المشكلة قد تكون من عنده في شكل الخطاب وهيئته على الأقل، أو الاعتراف بأن ثمة نقطة اختلاف عميقة تستحق المعالجة.

دعونا نعيد ترتيب المسألة باختصار، ولنحاول قدر الإمكان تحرير محل الخلاف الحقيقي بعد أن زاده طول السجال غموضاً بدل أن يكون سبباً في تنقيحه وتحريره، ثم نعلق بعدها على جملة من الإشكالات.

ليست المشكلة أبداً في اعتقاد حل الحلال شرعاً أو حرمة المحرم.

وليست المشكلة في أن الالتزام الفردي بهذه الأحكام الشرعية واجب شرعي، وأن تارك الالتزام محل للمؤاخذة الأخروية.

وليست المشكلة أيضاً في وجوب الدعوة لتحكيم الشريعة، وأن ثمة خيارات متعددة في فرض الهيمنة الشرعية في الواقع، وأن الأمر قد يستدعي أناةً وطول نفسٍ وتدرجٍ لفرض هذه الهيمنة في الواقع.

ليس شيءٌ من ذلك مثيراً للإشكال، ولا هو محل للخلاف، غير أن المخالف لسببٍ غير مفهومٍ يعيد ويكرر نفي هذه المعاني عن كلامه، موهماً أن جلّ مخالفيه فهموه خطأً.

موضع الإشكال والخلاف من البداية، في مسألة: هل يصلح أن يخير المسلمون بين أن يحكموا بدينهم، وبين أن يُحكموا بغيره؟

هذا ببساطة هو محل النزاع الذي انطلق منه هذا السجال، وهو المحل الذي تتجاذبه جملة من الإشكالات، وليس بخافٍ أن بواعث هذا السجال وذيوله إنما جاءت تعليقاً على مشهد الربيع العربي، وثورة الشعوب المسلمة، ولأجله طرحت مسألة حرية هذه الشعوب المسلمة في قبول أو رفض تحكيم الشريعة، والموقف الشرعي الصحيح من هذا القبول والرفض، ما بين طرف يرفض مبدأ التخيير أصلاً، وآخر يراه حقاً من حقوق الأمة وخياراً يجب احترامه.  

[1] الإشكالية الأولى التي تقفز إلى ذهني حين التأمل في مشهد تخيير المسلمين بأحكام الشريعة هو أنها تنطلق من فرضية مفادها أن كون الشعوب مسلمة لا يصح أن يكون تعبيراً كافياً عن رغبتها في تحكيم الإسلام، فكون الشعوب موصوفة بالإسلام شيء ورغبة تلك الشعوب بحكم الشريعة شيء آخر، الأمر الذي يجعل من مسألة التخيير بين الشريعة وغيرها عملية واقعية مشروعة، ومن بدهيات التدين بالإسلام أنه يحتوي في طياته الرغبة في تحكيمه فهذا التحاكم والالتزام ليس مجرد لازم من لوازم الإيمان بل هو واحد من مكوناته الصميمية، فلا معنى إذن في تخيير المسلمين بالتحاكم لشريعتهم إلا أن يكون تخييراً لهم في إسلامهم قبولاً ورفضاً وهو خيار لا معنى له إطلاقاً حين يكون الحديث عن شعوب مسلمة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)..

[2] تَفهُّم هذه الإشكالية يقود إلى إشكالية أخرى تتصل بمسألة التخيير بين الشريعة وما يضادها، فحين تكون قابلاً بمبدأ التخيير بين الشريعة وضدها، فستلتزم إتاحة المجال لحرية الاختيار ليكون خياراً فاعلاً في الساحة، وبالتالي فلا بأس في مشهد النظام المقبول إسلامياً من إتاحة المجال للدعاية للإسلام والدعاية المضادة له، وإقامة الأحزاب بكافة صورها وأشكالها، وإعطاء المجال لمادح الشريعة وللقادح فيها بالكلام والحديث والدعوة، بل بذل حق إعلان الطعن في الله ونبيه ودينه، كل ذلك لتكون صادقاً في إتاحة المجال للشعوب المسلمة للاختيار الحر وفق معطيات ينصف فيها الباطل من الحق، ويأخذ فيها الباطل حصته من حق الدعوة كحق الحق من غير فرق، ولأجل هذا سبق وأن دارت رحى السجال حول مجال الحريات في ظل النظام السياسي الإسلامي بالنظر إلى "حرية المنافقين"، والكل يعلم نتائج ذاك السجال وما ترتب على الاستدلال بأحوال المنافقين من لوازم باطلة، كفتح المجال للطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - وشريعة الإسلام والسخرية والهزء بالمسلمين والتآمر على الدولة المسلمة.. الخ، فإن كان المخالف يؤمن بأن الإسلام يُؤمِّن هذا الفضاء الفسيح من الحريات المنفلتة، ولا يرى بأساً في فتح المجال للقادحين في الشريعة، فعليه أن يدلل على مشروعية رأيه أولاً، ثم عليه تقديم الإجابات على سلسلة طويلة من الإشكالات، لا أن يتجاوز واجبات الاستدلال هذه بفرض رؤية غير مدللة ولا مبرهنة، وإن أذعن إلى واجب التضييق والحد من هذا اللون من الحريات، فهل التضييق عنده ناتج عن هيمنة القيم الشرعية؟ أم هو ناتج عن حكم الصندوق؟ فإن قبل بهيمنة الشريعة فقد أقر بعلو الشريعة ذاتياً على كل نظام وعدم افتقار تحكيمه في الواقع إلى شرعية بشرية، وإلا فقد جوّز تمدد هذا المجال من الحريات، وعاد على قوله بالتضييق بالنقض.

[3] وهذا يؤكد الإشكالية الثالثة وهي تتصل بمنطق الحق والباطل وأحكام كلٍ منهما وآثاره، فالإسلام جاء بمنظومة من التشريعات العقدية والعملية انطلاقاً من حقيقة كونه حقاً، فجاءت هذه الشريعة فرقاناً بين الحق والباطل لا على مستوى التنظير والحكم الأخروي فحسب، بل على المستوى العملي وفق منظومة تشريعية يتم من خلالها التفريق بين قيم الحق وقيم الباطل، ولتلغى كافة صور المساواة بينهما: (فماذا بعد الحق إلا الضلال).

بل لتمتد حالة نفي المساواة إلى حملة الحق وحملة الباطل: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).

(لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ).

أما الأمثلة والشواهد على هذه الحقيقية الشرعية في تفاصيل التشريعات العملية فأكثر من أن تُذكر في أبواب العبادات والجنايات والحدود والتوارث والأنكحة والأطعمة والشهادة والولاية والحضانة والقتال وحرية التعبد .. الخ .. الخ.

وخذ هذه الشواهد مختصرة للتدليل على سعة الشبكة التي تشملها هذه المنظومة التشريعية العملية، والتي تؤكد بدهية نفي المساواة بين حق الحق وحق الباطل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً).

(وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ).

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

((لا يقتل مسلم بكافر)).

((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)).

((الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)).

((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)).

((من تشبه بقوم فهو منهم)).

الخ الخ.

هذه بعض الشواهد فقط مما خطر في بالي الآن، وأظنها كافية في التأكيد على هذه الحقيقة الشرعية وهي تغني عن الاستطراد والاستغراق في ذكر الفروع الفقهية الناشئة عن هذه الشواهد في مختلف الأبواب الشرعية. حين أستحضر هذا المعنى فلا أستطيع إخفاء استغرابي الشديد حين أجد تلك المقابلة التي تضفي شرعية للباطل متى ما أعطيت تلك الشرعية للحق، فإذا أعطيت للحق حق الدعوة فيجب أن تقبل ذلك من الباطل، وإذا سمحت بفرض هيمنة الشريعة فاقبل من العلماني أن يفرض هيمنة العلمانية، إنه من المهم جداً الانطلاق بالإسلام باعتباره حقاً والتعاطي مع الأفكار المخالفة له على أساس أنها باطل لا تتمتع بالشرعية، وأنه لا تناقض إطلاقاً حين أفسح المجال للحق ليعمل في الواقع وأجهد في منع جيوب الباطل، وأخشى صادقاً أن يكون محل السجال القادم في حقوق الباطل في المجتمعات المسلمة.

[4] آخر ما أحب إبداؤه من ملاحظات يتصل بحالة الخلط الشديد بين سؤالين شديدي التباين، حالة الخلط هذه أفرزت قدراً من الإشكال في معالجة فكرة سيادة الأمة وتطبيق الشريعة، السؤالان ببساطة شديدة هما:

- من يطبق الشريعة؟

- لماذا نطبق الشريعة؟

والوعي بالفارق بين السؤالين يحل مشكلة سؤال السيادة لمن؟

فالذي يطبق الشريعة -في الأصل- ويخرجها إلى حيز التنفيذ هم حملة النظام السياسي الإسلامي المنبثق عن الأمة.

أما لماذا تطبق الشريعة فلأن تطبيقها هو مراد الله -تعالى-.

فشرعية التطبيق ليست ناشئةً عن إرادة الأمة وإنما الشرعية مكتسبة من واضع هذه الشريعة وهو الله -تعالى-، وفرق عظيم بين هذا التصور وبين من يجعل شرعية التطبيق راجعاً إلى إرادة الناس، فرق بين من ينفذ أحكام الشريعة في الواقع لأنها حكم الله وبين من ينفذها لأنها حكم الصندوق.

فالأمة إذن هي من تحمل الشريعة، أما لماذا تحملها؟ فلتحقيق مراد الله -تعالى- الذي أمر بالالتزام والإلزام بها.

فإن قيل:

الشريعة لا تطبق نفسها بنفسها، وإنما تحتاج إلى إرادةٍ وأناسٍ يطبقونها، وبغير هذه الإرادة لا يمكن أن تتمثل الشريعة في الواقع.

فيقال:

نعم، وليس هذا محل الإشكال ولا مجال البحث، فإن جميع الأعمال البشرية والتكاليف الشرعية لا تتحقق وجوداً في الواقع إلا بإرادة الامتثال، فالصلاة مثلاً لن تحصل ما لم يرد المصلي إيقاعها ولكن هذا لا يعني أن شرعية تحقيق الصلاة في الواقع ناشئةٌ عن هذا الإرادة هذا أولاً، وثانياً.. ليت من يطرح هذا الاستشكال لمنع هيمنة الشريعة إلا بالاختيار الحر، يستحضر إشكاله عند فرض هيمنة الديمقراطية في الواقع، فهي الأخرى كرةٌ في ملعب النظام السياسي تفتقر إلى تحريك الإرادة لتتحقق في الواقع، وهي الأخرى ليست كائناً يمشي على قدمين بل هي تحتاج إلى جملةٍ من الضمانات لتصح الممارسة الديمقراطية، ليتم حماية الأقليات من دكتاتورية الأكثرية، ولتتحقق قيم العدالة والمساواة، فما ستقدمه من معالجات لضمان تطبيق نظام صحي ديمقراطي في واقع "ما قبل النظام الديمقراطي" فالتزمه عند إرادة فرض الشريعة في واقع "ما قبل الشريعة".

وإذا كنت ترى أن أي نظام سياسي يجب أن يكون محكوماً بقيم العدل والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص، وأن الدولة يجب أن تكون دولة حقوق ومؤسسات وأن لهذه المعاني هيمنة واجبةً لذاتها عندك، فليكن هذا مدخلاً لتصور إمكانية إقامة نظامٍ محكومٍ بالإطار الإسلامي تكون السيادة فيها للشريعة، خصوصاً ونحن نتحدث عن شعوب مسلمة لا يتصور أن يُطرح عليها سؤال الهوية الدينية، فما بالنا نصر على طرحه، ونلتزم في سبيله بتلك اللوازم الفاسدة.

ونحن نتفهم تماماً أن فرض هيمنة الشريعة في الواقع يحتاج إلى حكمةٍ وعقلٍ وتصورٍ لأحكام الشريعةِ ومعطيات الواقعِ، فالذي حطم الأصنام بمكة يوم الفتح هو من كان يصلي عند الكعبة والأصنام تحيط بها من كل جانب. كما تنفهم أيضاً أن كثيراً من العاملين في الشأن السياسي من الإسلاميين اليوم يعملون في مناخ يستدعي قدراً من المرونة والمناورة واستحضار أحكام الضرورة والحاجة، ومعرفةً بحدود فقه الممكن والمتاح، وهم مطالبون بتقديم خطابٍ سياسيٍ مقبولٍ يلتزم حدود الاستطاعة شرعاً فلا يتجاوزون حكماً شرعياً ممكن التطبيق في ضوء معطيات الواقع، ولا يُلزمون أنفسهم ما لا يطيقون، ويجب على الشباب المسلم أيضاً أن يتفهم طبيعة هذا الخطاب السياسي والحاجة الماسة إليه تحقيقاً للمصالح وتخفيفاً للشر، وأنه لا يلزم أن يكون معبراً عن حكم الشريعة الأصلي، وأن ثمة مجالاً للاجتهاد في مساحات فقه الممكن، المهم أن لا يتم تحريف أحكام الإسلام تحت أي ذريعة وأي مبرر، بل الإبقاء على صفاء الإسلام ونقاء شريعته من التحريف واجبٌ شرعيٌ مقدسٌ. وإذا كان السياسي المجتهد في إصابة حكم الشريعة الأصلي في غير القطعيات منهياً عن ادعاء أنه يطبق حكم الله، ومأموراً بالتصريح بأنه إنما يعمل باجتهاده، فكيف الظن بمن يجتهد في إصابة حكم الشريعة المتعلق بحال الضرورة والاستطاعة.

"وإذا أنت حاصرت أهل حصن، أو أهل قرية، فأرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".

نعم، قد نتفهم ضروباً من الاجتهاد في العمل السياسي وما يكتنفه من أحكام الضرورة والاستطاعة، لكننا لن نتفهم بحال الإغارة على أحكام الشريعة، وجعل أحكام الاستثناء أصلاً، وفقه الممكن هو صورة الشريعة المثلى.

ختاماً:

ما أبعد المسافة التي كانت تفصل بين موقع الشريعة من ديمقراطية الأمس، والمسافة التي تفصلها عن ديمقراطية اليوم، فبالأمس كانت الشريعة تمثل مرجعية عليا للمشاركة الديمقراطية، واليوم أضحت مجرد خيار من زمرة خيارات في هذه اللعبة.

  • 0
  • 0
  • 2,714

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً