وقالوا من أشد منا قوة (عادٌ هم قوم هود عليه الصلاة والسلام)
إنا وجدنا الكبر في أنفسنا، ووجدناه في جماعات منا، أو من غيرنا، ووجدناه في بعض الأمم والشعوب الطاغية الباغية، ووجدناه في بعض الحكام والمحكومين، ولو عَرَف المرءُ عاقبته لحاول أن يتطهرَ منه كما يتطهّر من النجاسة المغلّظة، ولكن أين الذين يفقهون؟!
يقول د. محمد بيومي مهران في كتابه (دراسات تاريخية من القرآن الكريم) ما معناه:
ينظر الإخباريون إلى قوم عادٍ على أنهم أقدم الأقوام العربية. وتحديد العصر الذي عاشوا فيه بالغ الصعوبة، ومنطقتهم تقع في الأحقاف، إلى الشمال الشرقي من حضرموت في جنوب الربع الخالي. وتتجه آراء المحدثين إلى أنها في شمال الجزيرة العربية. وروي عن قوتهم وضخامة أجسامهم قصص كثيرة، فكانت هذه القوة سبباً للغرور والكبر والبطر. وهذا محور حديث هذا المقال.
قال تعالى في سورة فصلت: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15-16].
استكبر قومُ عاد مغترّين بقوتهم، وباهوا بقولهم: مَنْ أشدُّ منا قوة؟! القوة التي عندهم أصلها وأساسها نعمةٌ من الله عليهم، فبدلاً من أن يقابلوها بالشكر، والتواضع لله، ولخلق الله، تكبروا، ناسين أن الله الذي خلقهم، ورزقهم النعم المختلفة، هو طبعاً أشد قوة منهم، فما أسخف هذا الغرور! فماذا كانت نتيجة التكبر، وماذا كانت عقوبته: أرسل الله عليهم {رِيحًا صَرْصَرًا}.
قال الراغب الأصفهاني: "عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب، وكل موضع ذكر فيه لفظ الجميع عبارة عن الرحمة. وقوله تعالى: {رِيحًا صَرْصَرًا} إما من الصَّر بالفتح وهو شدة الحر، أو بالكسر وهو شدة البرد، أو شديدة الصوت. والأيام النحسات: التي كانت شؤماً ونحساً عليهم، هي أيام الحسوم، كما ورد في صفوة البيان لحسنين مخلوف".
إن كل أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب يستكبر في الأرض، ويطغى، ويبغي يحتملٌ أن يعاقبه الله بالعقوبة التي عاقب بها عاداً قومَ هودٍ عليه السلام.
يقول الله عز وجل في سورة القصص: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): "البطر: الطغيان في النعمة، و{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أصلها: بطرت في معيشتها. والقرية: هي المدينة، والمكان الذي اجتمع فيه الناس. قال ابن كثير في تفسيره: "يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة"، تلك المدن، يعني أهلها، طغوا، وكفروا نعم الله، فأهلكهم الله تعالى، وبقيت مساكنهم خراباً لم تسكن من بعدهم".
وكذلك فإن كلّ أمة على مرّ التاريخ تبطر في معيشتها فهي معرضة أن تعاقب بمثل هذه العقوبة الإلهية.
وهذا العقاب يمكن أن يصيب مثلُه الأفراد إذا تكبروا: روى الإمام أحمد في مسنده برقم [9348]، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: « »، وفي رواية: « » قال ابن الأثير في (جامع الأصول): "شبّه العزّ والكبرياء بالإزار والرداء، لأنّ المتّصف بهما يشملانه كما يشمل الإزارُ والرداءُ الإنسانَ، وأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد، فكذلك الله عزّ وجل: العز والكبرياء إزاره ورداؤه، فلا ينبغي أن يشركه فيهما أحد، فضربه مثلاً لذلك".
وفي صحيح مسلم: « » وعَرّف عليه الصلاة والسلام الكبر فقال: هو: « »، أي: يطغى ويتكبر عن سماع الحق فلا يقبله، ويحتقر الناس ويتعالى عليهم.
وفي حديث حسّنه الترمذي، يقول عليه الصلاة والسلام: « (يعني: صغار النمل).
وعند الترمذي أيضاً: «».
وفي البخاري ومسلم: « (أي: يسوخ ويغوص)».
قال الإمام الغزالي في (الإحياء): "ذمّ الله الكبر في مواضع من كتابه، وذمّ كل جبار متكبر فقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]".
ثم قال رحمه الله: "اعلم أن الكِبْرَ ينقسم إلى باطن وظاهر: فالباطن: هو علُقٌ في النفس، والظاهر: أعمال تصدر عن الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحقّ، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق. وآفة الكبر عظيمة، وغائلته هائلة، وفيه يهلك الخواصّ من الخَلق، وقلّما ينفكّ عنه العُبّاد، والزُهّاد، والعلماء، فضلاً عن عوامّ الخلق!".
والتكبر أنواع، منه التكبر على الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما حكى الله سبحانه عن بعض أقوامهم: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:47]؟! وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21].
ومن التكبر على العباد، وذلك بأن يستعظم نفسه، ويستحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم، وهذا عظيمٌ من وجهين:
أحدهما: أن الكبر والعزّ والعظمة والعَلاء لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟ فمن تكبّر على عبدٍ من عباد الله فقد نازع الله في حقِّه.
الثاني: أن الكبر يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره، لأنّ المتكبر إذا سمع الحقَّ من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله، وتشمّر لجحده، ولذلك نرى المُناظِرينَ في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين، ثم إنهم يتجاحدون تجاحُد المتكبرين، ومهما اتضح الحقُّ على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله، وتشمّر لجحده، واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس، وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين! انتهى الاقتباس بتصرّف.
إنا وجدنا الكبر في أنفسنا، ووجدناه في جماعات منا، أو من غيرنا، ووجدناه في بعض الأمم والشعوب الطاغية الباغية، ووجدناه في بعض الحكام والمحكومين، ولو عَرَف المرءُ عاقبته لحاول أن يتطهرَ منه كما يتطهّر من النجاسة المغلّظة، ولكن أين الذين يفقهون؟!
اللهم زكّ نفوسنا وآتها تقواها، إنك خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها.
- التصنيف:
- المصدر: