وقفات تدبرية في سورة السجدة - وقفات (16-17)

منذ 2015-04-11

الجفوة ترك مع كراهية المتروك، لأن مجرد الترك قد يصاحبه شوق وألم للمتروك! ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: {تَتَجَافَى} أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء بما أشار إليه الإظهار..

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
في الآية يذكر ربنا سبحانه وتعالى بعض أحوال المؤمنين وأعمالهم، من أعظم صور اليقين والخضوع.

"الجفوة ترك مع كراهية المتروك، لأن مجرد الترك قد يصاحبه شوق وألم للمتروك! ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: {تَتَجَافَى} أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال: {جُنُوبُهُمْ} بعد النوم {عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس" (البقاعي).

{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} في صلاتهم وجميع أحوالهم هم يكثرون من الدعاء يذكرون الله سبحانه، ويدعونه في وقت البلاء والرخاء.

المؤمن إذا عرف ما عند الله من عظيم الفضل، طمع بما عنده رجاء ثوابه، وبالوقت ذاته يخشى عذاب الله وعقابه ولا يأمن مكر الله، دون أن يدفعه ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمته، فهو بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، وهذه قمة العبادة.

"لما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال، إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم" (ابن عاشور).

صلاة الليل عبادة جليلة لذلك اعتنى بها السلف الصالح بشكل كبير، قال ابن المنكدر: "ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة".

ويقول أحد التابعين: "منذ أربعين سنة ما حزنت على شيء كحزني على طلوع الفجر"!
الآية فيها إشارة لكثرة قيامهم الليل بدليل جمع الكثرة {جُنُوبُهُمْ}، بمعنى أن الأصل والغالب الأعم القيام، وليس الاستثناء! وأن تجافي جنوبهم في الليلة الواحدة يتكرر!

قد يهجر المضجع أناس لغير العبادة، سهرًا على معصية أو لهو وضياع وقت، لذلك أكد الله في هذه الآية أن تجافي مضاجع هذا الصنف من المؤمنين للعبادة بقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}.

من صفات المؤمنين أنهم مشغولون بذكر الله، لا ينامون إذا نام الناس، ولا يلهون أو يلعبون إذا خاض الناس في سفاسف الأمور! الإنفاق في سبيل الله أجره عظيم وفضله جسيم، يكفي أن الله لخص كل الأعمال الصالحة في الدنيا لمن طلب الرجوع في الصدقة! قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].

قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
أي نفس لا تعلم مهما بلغ بها الخيال والطموح والتفكير، فلا تقدر أن تعرف شيئًا عن نعيمهم وما الذي ينتظرهم، العين تشير إلى مظهر ومعالم وتقاسيم الإنسان، فمن خلالها تظهر السعادة أو الحزن، والتعب أو الراحة، كما أنها تعبر عن كثير من المشاعر والهواجس، حتى القناعة من غيرها تظهر على العين!

أهل الجنة استقرت عيونهم، فلا مطامع ولا مطامح ولا رغبات مكبوتة أو معلنة، فقد نالوا كل فضل وكرامة وشرف وخير، بل كل ما تشتهيه الأعين فاستقرت أعينهم! ففي الجنة تقرّ العيون بحيث لم يَعُدْ لها تطلعات، فقد كَمُلَتْ لها المعاني، فلا ينبغي لها أنْ تطمع في شيء آخر إلا الدوام (الشعراوي).

الأعمال ليست ثمنًا للجنة بل هي سببًا، لأن ثمن الجنة غالي جدًا جدًا (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)، ومن هداية الآية أهمية الإخلاص في الأعمال، فلما أخفى القائمون القانتون لله أعمالهم وتواروا عن أنظار الناس في صلاة الليل، أعظم الله ثوابهم وأخفى جزاءهم، لأن الجزاء من جنس العمل.

والإخلاص هو أن يستوي عملك في السر والعلن، وأن لا تبتغي في أعمالك أجرًا ولا فضلاً ولا ثناءً ولا محمدة إلا من الله وحده.

ونقل عن بعض السلف أقوالهم:
"بالصدق والإخلاص يفتح الله على العبد من الفتوحات العلمية والإيمانية ما الله به عليم".
لما سُئِلَ عن أهم الأعمال قال: "الإخلاص ولا تستطيعه النفوس إلا بالمجاهدة".

"أعز شيء في الدنيا الإخلاص".
"ينبغي التفرغ لتعليم الناس الإخلاص".
"مَا نزل من السَّمَاء أعز من التَّوْفِيق، وَلَا صعد من الأَرْض أعز من الْإِخْلَاص" (التحبير شرح التحرير).
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

10/4/2015م

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 2
  • -1
  • 4,815
المقال السابق
وقفات (14-15)
المقال التالي
(18-19)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً