اللِقنة وارثون (2)
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة فيها من سيتبع حذو من كان قبلهم حذو القذة بالقذة، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، ولما رأى ابن المبارك هذا في زمنه قال: "وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ، وأحبارُ سوء ورهبانُها"، فلِقنة اليوم وارثون لمن كان قبلهم، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، ونتنًا بنتن.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35]، فالآية الكريمة نص في أن من يأكل الأموال بالباطل هم رموز دينية يتهافتون على الدنيا، ويأكلون أموال الناس تحت غطاء ومسمى ديني.
ويقول أهل العلم أن الله تعالى قدم الفتنة بالأموال على الفتنة بالولد وغيره في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن من الآية:15]، لأن الافتتان بها أعظم، لأنها نيل للعاجلة ووسيلة لنيل بقية مطالب النفس الدنيئة من أمور الدنيا وشهواتها العاجلة.
والآية وعيد في منع الزكاة، والملفت أن الوعيد في منع الزكاة وتحريم الكنز جاءت في شأن من يستأكل أموال الناس من خلال الدين، وغيرهم من أهل الدنيا هم كذلك، لكن ورود الآية في شأن من ينتسب للعلم وللعبادة له دلالته..
فإن كان الأمر كذلك فلا يقول قائل: هل تعلم أكثر من فلان؟ وهل تظن أنه لا يعلم ما تقول؟ وهل فاته هذا؟ وذلك لأن حفظ العلم فقط (اللقنة) لا يعني الرغبة في الآخرة ولا صحة المواقف، فحمل العلم شيء آخر غير مجرد حفظه، ذلك لأن الله تعالى نص على حملة العلم من (أحبار اليهود)، ونص تعالى على رموز العُبّاد من (رهبان النصارى)، من أهل الكتاب قبلنا، أنهم اشتروا بعلمهم، بل وبعبادتهم الدنيا! فلا تأمن.
لقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة فيها من سيتبع حذو من كان قبلهم حذو القذة بالقذة، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، ولما رأى ابن المبارك هذا في زمنه قال: "وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ، وأحبارُ سوء ورهبانُها"، فلِقنة اليوم وارثون لمن كان قبلهم، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، ونتنًا بنتن.
فلا تخوف الناس بلحية، أو منصب، أو اسم، أو رمز، أو عمامة أو شال! ولا تدل على الحق بأن فلانًا يبكي أو (يشحتف)، فلا دلالة في الدموع كما لا دلالة في الأشكال والمناصب، فليست هذه علامات عصمة.
فإن قال قائل: فكيف نثق إذًا إن لم نثق برموز العلم والدين؟ قيل لك ما قاله معاذ بن جبل: "وعليكم بالحق فإن على الحق نورًا"، فمن ابتغى استرضاء سلطان أو طاغية أو أراد شهرة أو منصب فالأمر واضح، وأما الحق فبيّن، فمن أراد إعلاء الدين والتمكين له وناضل به وخاض به ضد الانحراف واستعصى على الضلال والإضلال والغواية والإغواء وارتفع بالعلم فلم يخدم به الباطل بل حطم الباطل به، فذاك، فاستمسك بغرزه.
العلم يُلقى على الناس ليحكم أفعالهم ويقيّم واقعهم ويصلحه على مقتضى ما أنزل الله تعالى، أما أن يُجعل واقع الناس حاكمًا على العلم فينتقى للباطل وللمجرمين ما يبرر طغيانهم وباطلهم فذلكم الضلال، يقول الإمام الشاطبي أن: "من خواص العلم كونه حاكمًا لا محكومًا عليه(" الموافقات، المقدمة).
لقد ضرب الله تعالى مثلاً لعالم السوء بأبلد الحيوان (الحمار)، وضرب له مثلاً بأخس الحيوان (الكلب).
فقال تعالى في من حمل علمًا لا يعمل به، وصار بليدًا لا يقدّر قيمة ما يحمل ولم يدخله إلى قلبه ولم يعش بمقتضاه، ولم يتغير على وفقه: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
وقال تعالى في من غلبته شهوته رغم حمله للعلم حتى صار لاهثًا من شدة اتّقاد حرارة الدنيا وشهواتها في جوفه، حتى أدلع لسانه لاهثًا حقيرًا خاسئًا، يزجره الناس حيث يتردد على كل الموائد طالبًا بقايا قذارات دنيا الناس مستعدًا لدفع الثمن -أي ثمن- يقول تعالى في شأنه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:175-177].
إنْ حمَل العلم صاحبه على الاستعصاء على الباطل والرغبة في الآخرة ومواقف الإشهاد الحق لله تعالى فذلكم العلم وذلكم حامله، أما اللقنة (الحافظ الذكي سريع الفهم فحسْب) فالعلم لهم آلة لشهوات ما أكثرها وما أخسها.
- التصنيف: