فض الاشتباك مع العلمانية
ونحاول في خطاب هادئ وخطوات متتابعة نقاشًا سريعًا نخاطب به العلمانيين أنفسهم، ونخاطب به شبابنا وجماهير أمتنا ليعلموا حقيقة الأمر، ولنحاول أن نكون منطقيين أمام من يلتوي ومن يتبجح كليهما.
في حوار هادئ مع العلمانيين..
يفضل العلمانيون الكثير من اللف والدوران، وعدم تصريح وتناقض، ومعاداة ملتوية لهذا الدين. وينخدع بعض شبابنا بما يطرحون، ويرددون كلماتهم ومواقفهم بلا تعقل ولا وتدبر ولا معرفة بخطور ما وراء الأمر، وأحيانًا يتبجحون، على سبيل الاختبار، بالإلحاد.
ونحاول في خطاب هادئ وخطوات متتابعة نقاشًا سريعًا نخاطب به العلمانيين أنفسهم، ونخاطب به شبابنا وجماهير أمتنا ليعلموا حقيقة الأمر، ولنحاول أن نكون منطقيين أمام من يلتوي ومن يتبجح كليهما.
والأمر دائر بين الإقرار بالغيب، والإقرار بمقتضياته وتحديد مفهوم الدين، ولا بد من نقاشهما والمرور عليهما. ونوضح ذلك في نقاط حاكمة وسريعة، تكفي العاقل، وإن كان لها تفصيل في مواضع أخرى.
(1)
فبدون اتهام، بل للحفاظ على المنطقية، فأول الأمر هل هناك إقرار بوجود الله تعالى أم هناك شك أو جحود لوجوده؟
فإن كان هناك إقرار فهناك ما يترتب على هذا الإقرار، وإن لم يكن هناك إقرار بوجود الله تعالى فليبحث عن حقيقة الأمر وعلاج هذا الموقف وحسمه. هناك وجود وأحداث فمن الموجد والمحدث؟ هناك مئات الآلاف من التوافقات لقيام الحياة البشرية، فمن وفرها بهذا النظام الدقيق؟ هناك دقة متناهية وتوازن عجيب وبصمة واحدة في كل المخلوقات، فمن أوجدها؟
هناك حاجة ملحّة في نفس كل مخلوق نحو الله تعالى والتعبد له فمن أوجد تلك الفطرة؟ هناك عناية ملحوظة بهذا المخلوق فلم توفر له إقامة الحياة في حدها الأدنى فقط بل وفر له الرياش والمتاع فمن فعل هذا ومن قصده؟ وهناك إعطاف من يرعاه عليه كالأبوين. جريان كل هذا بدقة وحكمة وتوازن واطراد لا يأتي أبدًا بغير قوة قاهرة ومهيمنة قاصدة لحدوث كل هذا، ولحكمة تراد. فمن لم يقر بالله تعالى فهو مجنون أو مكابر.
(2)
من أقر بوجود الله تعالى فثمة احتياج بشري إليه، والاحتياج البشري قائم من جهتين: جهة ربوبيته وإصلاحه للحياة ورعايته لهذا المخلوق، وجهة طلب القلوب له تعالى. كما أن إيجاده للحياة لا يكون عبثًا فليس هناك عبث في أي وجود أو مخلوق، وبالتالي فلا بد من حكمة بالغة تليق بالإله الذي خلق وأوجد وبث حكمته في كل شيء. وعلى هذا، فلهذا المخلوق غاية من وجوده ولا شك، وبمعرفته لغايته ينتظم أمره وتنتظم الحياة كذلك معه.
(3)
ليس تحديد هذه الغايات موكولًا إلى الإنسان وتجاربه وخبراته، بل الذي يحدد غاية وجوده هو من خلقه وأوجده، وخلق الحياة وأوجدها، وجعل القوانين الحاكمة لكل موجود، بل إلى من يعلم، بل وضع القوانين الكلية للحياة وسائر ارتباطات مخلوقاتها، وماضيها وحاضرها ومستقبلها، وإلام تسير والغاية من وجودها، وذلك ممن له الأزل بلا ابتداء والبقاء بلا انتهاء.
(4)
ولا راحة للإنسان إلا بمعرفة غاية وجوده لتنتظم حياته، واحتياجه إلى هذا أعظم من احتياجه للطعام والشراب. ومن رحمة الله تعالى أنه لا يدعه جاهلًا، فمن رحمته تعالى أنه يخاطب هذا المخلوق ويرسل إليه من يعرّفه بغاية وجوده، ولهذا فلله تعالى رسل وله خطاب مضمَن معهم في كتبه تعالى. والشأن هنا في معرفة صدق الرسول وأنه مبلغ عن الله، وصدق الكتاب الذي جاء به وأن هذا هو كتاب الله، وكلاهما متلازمان فإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر، والرسالات والكتب لازمان للحياة وإلا فسدت.
(5)
فمن أراد أن يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى البشارات به وبمكان مولده ومهاجره وصفته وصفة أصحابه، وما زال هذا بأيدي أهل الكتاب إلى اليوم. ولينظر إلى ما جاء به مقارنة بما جاء به الأولون من جنس النبوة والأوامر والنواهي والشرائع، وسموها المعجز والمؤثر عالميًا إلى الآن، ولم يصْب العالم إلى سمو وتوازن ما جاء به من عند ربه.
ولينظر إلى ما أمر به ونهى عنه وإلى ما فعله، وأنه أول مؤتمر وأول منزجر، ولينظر إلى شظف عيشه وبحثه عن الآخرة تلك التي جاء بوعد الله بها ووعيده بها كذلك، فكان أول راجٍ وأول خائف. ولينظر في مصادمة ما جاء به للشهوات والأهواء وإقامته للمصالح المطردة والعامة للفرد والجماعة. ولينظر في أخباره الماضية وإخباره بما أخفاه بعض أهل الكتاب، وما جهلوه هم وغيرهم من قصص نوح وعاد وثمود وغيرها. ولينظر إلى شهادة من آمن من أهل الكتاب به ولم يعاند.
ولينظر إلى أخباره المستقبلية مثل بشارته بإنفاق كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، وظهور الخوارج، ونار تخرج من قعر عدن، ورجال بأيديهم كأذناب البقر يضربون بها أبشار الناس، والنساء الكاسيات العاريات، والبشارة بالخلافة الراشدة فالملك والرحمة فالملك العضوض فالحكم الجبري، وبشارته بفتح القسطنطينية. كل هذا بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم وحدث، وهناك عشرات البشارات الأخرى التي حدثت، وهناك عشرات أخرى لم تحدث بعد.
(6)
ومن أقر بهذا ورآه أقر بالكتاب الذي جاء به. والكتاب نفسه يحمل دليل صدقه، ومن شك فيه فلينظر فيه نفسه وإعجازه البلاغي والنظمي، ومن له مزاولة للبيان علم هذا، والجاهل لا يدرك مثل هذا فإن أنكر فلجهله بمادة البيان لا لافتقاد الكتاب لهذا الإعجاز. فثمة دقة متناهية في ألفاظه وصوره لا تشبع منها العلماء يرونها يومًا بعد يوم، لا تنضب ولم يحصها أحد، بل يقف كلٌ على جملة منها. ولينظر إلى إعجاز هذا الكتاب وما أخبر به من المستقبل، كغلبة الروم وظهور الإسلام وكفاية الله لنبيه المستهزئين، وأنه تعالى يأتي الأرض ينقصها من أطرافها بغالبة الإسلام شيئًا فشيئًا، وهذا ما حدث، وإلقاء الرعب في قلب عدوه، وأنه سيظهر الحق وسيكون هذا دليلًا على صدقه وسيمحو الباطل وأن هذا دليل على بطلانه، وهذا ما حدث وشهدته الأرض لأكثر من ألف سنة حتى ترك أهله الشرط فتخلف المشروط. ولينظر فيما أخبر به من الماضي السحيق لنوح وعاد وثمود وأصحاب الكهف وغير ذلك. ولينظر إلى إعجازه العلمي والذي يتوافق كل يوم مع ما يظهر من اكتشافات فلا تصطدم به أبدًا بل تؤكده وتشهد له، حتى أنها لتتوافق مع الصور البلاغية للتعبيرات، والألفاظ التي جاءت فيه، ومن أراد الوقوف على التفاصل فأسفار مكتوبة في هذا.
وأما الإعجاز التشريعي فممتلئ به، ويكفي أن المواريث جاءت في ثلاث آيات متوازنة مع توزيع الأعباء الاجتماعية في المجتمع ومع بقية الضمانات الاجتماعية ومسؤوليات الإنفاق، وجاءت المواريث في القانون الأمريكي في ثمانية مجلدات! ومن نظر في آياته وجد بعضها يؤكد بعضًا لا يتناقض ولا يكذب، بل كلما رأيت حقًا في محل وجدت ما يؤكده في محل آخر، خبرًا كان أو أمرًا، وهذه جملة تحتها تفصيل.
(7)
ومن شك أو كذب بلقاء الله تعالى فلينظر إلى الحكمة المبثوثة في الوجود كله، جملته وتفاصيله، كيف تكون الحكمة المقصودة هي بناء الكون، ثم يكون الهدف منه عبثًا؟ فلا بد من يوم للمجازاة لتتحقق الجدية والعدل والحكمة.
هناك من يموت ظالمًا وآخر مظلومًا وهذا قاتل وذاك مقتول، هذا عف وذاك فاجر، فإن كانت الحكمة والحق هي قوام الحياة فكيف يستويان. ولننظر في جدية الحياة وقوانينها وسننها وناموسها، فالجدية ملحوظة وهي الحق الذي به خُلقت السماوات والأرض، وقد نفى الله تعالى اللعب {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } [الأنبياء:16]، فإن كانت كذلك وكانت الحياة تسير من ميلاد ثم نمو متتالي من طفل لشاب لشيخ، وفي الطريق يتحمل الأعباء ويعمل وينفق على زوجة وولد ويربي من يخلفه في هذه الحياة، ثم يموت ويمضي مبكرًا أو بعد شيخوخة، فأين الهدف والغاية إن لم تكن في قيمة العمل الذي يقوم به الشخص أثناء هذه الرحلة وفي توجهه بتلك الرحلة إلى ربه تعالى من أجل تصديق ما وعد وإصلاح الحياتين، تلك الدنيا وهذه الآخرة؟!
وهذا ما قرره تعالى مرارًا {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، وغيرها من الآيات.
ومن شك في البعث لاستحالة إعادة الأجساد فلينظر إلى بداءة الأجسام فمن قدر على هذا قدر على تلك. ولينظر في إحياء الأرض بالنبات كل لحظة فهو دليل دائم على البعث، ولينظر في خلق السماوات والأرض وهي أكبر من خلق الإنسان. ومن ظن أن الأعمال غير محصورة وأنها تتلاشى وتُنسى وينتهي أثرها، فإذا كان هناك إقرار بوجود الله تعالى فالله تعالى حق، وخلقه حق وجد، وبالتالي فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وهي محصورة ومضبوطة ومكتوبة على أصحابها. والذي خلق هذه الدار بقوانينها قادر أن يخلق دارًا أخرى خالصة للنعيم بقوانين تخصها، وأخرى لعذاب من خالفه أو كذبه أو أعرض عنه أو رد أمره أو استخف به، بقوانين تخصها.
(8)
فمن نظر في هذا ثم كذب أو شكّ، فليصرح بهذا، وأننا أمام حالة إنكار أو تكذيب بالدين أو شك فيه أو طعن، أيًا ما يكون، وبالتالي فنحن أمام حالة غير إسلامية يجب أن تعلن هذا لا أن تتبجح بأنها ما زالت مسلمة ثم تناقش في تفاصيل الدين على هواها. وبالتالي فإعلان هذا والبحث في دلائله ومناقشتها أشرف وأكرم وأكثر منطقية وعقلانية أو كما يحلو لهم أن يطنطنوا بلغة أجنبية هذا (LOGIC)، أما أننا مسلمون رغم أنف الجميع مع عدم الإقرار بالإسلام ورفضه، فهذا ما لا يعقل.
(9)
أما من أقر بهذا الغيب فأقر بالله تعالى وصدق الرسالة والكتاب واليوم الآخر فإنه يترتب على هذا أن يكون الدين هو أعظم الأمور أهمية لأنه يحدد العلاقة بالله تعالى وهو مناط الرضا أو السخط، ومناط تحقيق هدف الحياة أو إهدارها. والسؤال هنا من الذي يحدد ماهية الدين؟ هل من أنزله وخاطب به المكلفين؟ أم المكلفون أنفسهم هم الذين يحددون لله تعالى حدود ما يسمحون له بالتدخل فيه وما لا ينبغي؟ هذا سؤال حاسم وحاكم في الأمر. وغالبًا من يجيب بأن الإنسان هو الذي يحدد حدود ومساحة الدين ويحدد دور (الله) تعالى! أنه إما جاحد ومكذب بالغيب وبوجود الله تعالى الذي هو أظهر شيء، أو وصل من إغلاق القلب إلى درجة الاستهانة به سبحانه وتعالى.
(10)
أما من أقر بأن الله تعالى هو الذي يحدد ما هو الدين الذي أنزله! وشكل ونظام الحياة للفرد والمجتمع، تلك الحياة التي شرع الشرائع من أجلها وأرسل الرسل لإقامتها، فمن أقر بهذا فليطلب معرفة الدين ممن أنزله سبحانه وتعالى.
ومصدر هذه المعرفة أمران: نصوص الوحيين (القرآن والسنة) والممارسة المَرضية التي نص الله تعالى عن رضاه عن أصحابها وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد رضي الله عنهم واشترط في رضاه عمّن يأتي بعدهم أن يكون على نهجهم متبعًا لهم بإحسان. وهم فيما مارسوه فرّقوا في ممارستهم بين الجانب التشريعي المراد إقامته وبين الأشكال والنظم التي أخذوا فيها بتطور عصرهم، فدونوا الدواوين مع إقامتهم الدقيقة بل والفائقة للشرع، فكان هذا نصًا مهمًا وفتحًا لمجال الاجتهاد في الأشكال المحققة للمقصود، مع إقامة والتزام الشرع المنزل.
(11)
وبالرجوع إلى مُنزّل هذا الدين سبحانه وإلى المبلغ عنه صلى الله عليه وسلم ترى أحكامه المنزلة وخطابه سبحانه وتعالى أنه إما خطاب تعبدي أو في المعاملات. وفي الخطاب التعبدي إما خطاب فردي كأداء الصلاة أو خطاب جماعي كإقامة الصلاة؛ خطاب فردي كأداء الصيام أو جماعي كالاجتماع لرؤيته صومًا وإفطارًا، والاجتماع على الصلاة وقيام الدولة بهذا. إما فردي كأداء الزكاة المفروضة، أو جماعي بقيام الدولة بإقامتها وتعيين القائمين عليها وتحديد من استوفى شروط أوعيتها وإرسال المصّدقين وجمعها وتفريقها في مصارفها الشرعية، وهكذا.
وفي المعاملات وإقامة نظام المجتمع فهي ليست معاملات فردية تحكمها ضمائر فقط، بل هي قوانين تحملها ضمائر وهي تحمل الضمائر وتوقظها وتعطي الجدية للأحكام. فالأحكام إما فردية كبِرّ الوالدين أو أداء الأمانة، وإما عامة لإقامة السلطة التي تقيم الأحكام الشرعية عامة فتقيم الحدود وتقيم النظام الاقتصادي بأحكامه، وتقيم النظام الاجتماعي بأحكامه، وتقيم النظام السياسي بشروطه ومواصفاته وأحكامه، وتقيم وترعى الفن المنضبط والملتزم بأحكام هذا الدين والقائم عليه والناظر لجمال الحياة من خلال جمال وروعة التصور الرباني المنزل، وتقوم بمناصفة الحقوق بين الخلق وفق منهجه، وتقوم برسالة هذا الدين وإيصالها ونشر دعوته إلى الخلق.
(12)
ما من منهج إلا ومن المنطقي والبدهي أنه لا يعمل عمله ولا يقوم بدوره ولا يرى أحد حقيقته وآثاره إلا أن يحكم الحياة وينظمها على وفق رؤيته. والاعتراف بالإسلام مع التقنين بعيدًا عنه تناقض؛ فالإسلام له أحكامه العامة والدولية ونظامه الاقتصادي والاجتماعي، ونظامه السياسي ومنظومته الأخلاقيه وقيمه وصبغته، وله حرياته وحقوقه التي يقررها مع المسلم ومع غير المسلم. هذه طبيعة أحكام هذا الدين فقبول جزء من أحكامه ورد جزء آخر هو رد لجملة أحكامه لأن أحكام هذا الدين لا تتبعض ولا يحق للعبيد الاعتراض على أحد من أحكامه تعالى فضلا عن جملة كبيرة منها وهي الجملة الحاكمة لهذا المنهج والمسؤولة عن تقديمه للبشرية وإقامة الدين وحمل الناس عليه والقضاء والمناصفة به بينهم وتعليم الناس إياه ونشره بين الخلق.
(13)
قد ينتفي الشك والتكذيب، لكن تبقى الكراهة للإسلام، خاصة لأحكامه، لمصادمتها لشهواتهم وميولهم المرتبطة بالحضارة الغربية المادية، وقد يساعدهم على هذا عدم رؤية الممارسة الحقيقية والصحيحة للإسلام بل تمثله حاليًا دول هي علامة على التخلف. وفي حقيقة الأمر نحن أمام استخفاف بالدين ومكانته، وتحديد ما يجب لله تعالى وما لا يجب، وتحديد لحدود تدخل الدين في الحياة من قوم إما أن يكونوا ملحدين، شاكين أو مكذبين، وإما رافضين أو كارهين أو مستخفّين بهذا الدين وأحكامه وغيبياته. وهذا مطرقة وسندان أصبحت الحركة الإسلامية أمامهما اليوم بين بيان حقيقة الإسلام والسعي إلى إقامته وتعليمها لأهله، ومقاومة هذا الطابور التابع لأسياده الشواذ والإباحيين في الغرب.
(14)
من كان رافضًا للإسلام فليصرح بهذا، لا ليتبجح بل ليعالج هذا الخلل، بدلا من التلبيس، ولتقف الأمة ولتقف مجتمعاتنا أمام هذه الحقيقة الصريحة بدلا من ادعاء احترامه والخوف عليه، وادعاء أنهم من أجل هذا يقتلون أهله وأنصاره لأنهم –بزعمهم- يتسترون بالدين في مقابل من يرفضون الدين! فيصبح الرفض والتنحية أشرف وأكرم من العمل وخدمة هذا الدين وتقديم الحرية والروح وفلذات الأكباد من أجله لاتهام هؤلاء العلمانيين للمسلمين بالتستر بالدين!
(15)
نحن لا ننسى دور الشياطين، ولا دور اليهود، ولا دور الصادين عن سبيل الله يبغونها عوجًا. ولمزيد المعرفة فلينظر الناظر إلى أين تسير الأمور. الإسلام والحرية والقوة وتنمية البلاد والعدالة الاجتماعية والانعتاق من التبعية واحترام الهوية والاعتزاز بالذات كل هذا اتجاه واحد، ورفض الإسلام مع الكذب والالتواء والتبعية والعمالة والتخلف والفقر والفساد وسيطرة الدكتاتورية العسكرية المتحالفة مع رجال الأعمال الفاسدين ومع الطائفية البغيضة والخطيرة وثورات الجياع وانتحار المعوزين والرشوة والمحسوبية وفقدان الانتماء والاغتراب والحياء من الانتماء العربي والإسلامي- كل هذا في اتجاه آخر.
(16)
إن نشأة العلمانية في بلادها الغربية لها ما يبررها عندهم، وهذا لا يلزمنا، فلم نعاني مما تعاني بلادهم، بل تقدمنا بالإسلام وسدنا به الدنيا وإن كنا نجهل ذلك أو بتعبير أصح نُجهّل ذلك، ولا يصح إسقاط تجارب خاصة بأمم لها ظروف خاصة، لتطبق علينا. أحكام وشرائع وقوانين أوروبا والغرب أمر يخصهم ففيه تأثير المسيحية وفيه تأثير رفضها وترسيخ قيم الانحلال فمزيج من هذا وذاك. قيمهم وأحكامهم وظروفهم ليست قيمًا ولا أحكامًا ولا ظروفًا عالمية؛ بل هي محلية إقليمية خاصة.
لنا أحكامنا وتوجهاتنا، ومن حقنا امتلاك العلوم والتكنولوجيا والأشكال الحديثة الخادمة لديننا والمعينة لإقامته، لكن يجب قبلها أن نكون مسلمين كما أمر الله، يتمثل إسلامنا في قبول شرعه ومنهجه، ودينه وهويته، ثم في إطاره نقبل الإنتاج البشري بنفس طريقة قبول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حدود المجالات التي رأوا أنها لا تناقض ما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومارسوه معه وأقاموه.
(17)
لا استقرار لمجتمعاتنا ولا تقدم لها ولا تنمية إلا باستقرار هويتها. فبدلا من احتقار الهوية الإسلامية واحتقار المسلمين والنظر إليهم بتعالٍ، فالأكرم والأشرف هو احترام هوية الأمة، وإقامة النظام السياسي والاجتماعي على وفقها، فهما الوعاء الذي لا يقوم إلا على استقرار الهوية الإسلامية التي تحترم الأوطان، وتصبح الأوطان فيها أحد كتائب الهوية الإسلامية وأحد راياتها، وعندئذ نستطيع أن نرى النمو الاقتصادي، ذلك أن الناس (الغائبة اليوم) عندها (تحضر) وتأخذ دورها في التنمية لأن الهوية الحقيقية وهي الإسلام تستدعي حضور المجتمع بأكمله، ومن ثم يشارك في التنمية، ويتأكد هذا بالعدالة الاجتماعية.، وبغير هذا فستظل الأغلبية عازفة ومهمشة، ولا تحضر إلا القلة الفاسدة وأرباب الانتهاز والطبل والزمر.
(18)
كلما ابتعدنا عن هويتنا، وحكَمتْنا أوضاع علمانية بعيدة عن هوية الأمة، فاعلم أنه لا بد من الاستبداد، لأنها لا بقاء لها مع حرية الناس، إذ الناس تختار مع ما يتوافق مع دينها وهويتها وتاريخها مهما شوهها لها أعداؤها، وبالتالي لا بد من الاستبداد. ولا تتصور أن يستبد وطني شريف بل سيستبد متعامل مع العدو ومندوب عنه، فمع الاستبداد لا بد من التبعية والعمالة. وهذه الحال لا تؤدي إلى تنمية فالعدو يفرض شروطه ويحدد سقف التنمية لئلا تخرج البلاد من التبعية للعدو، فلا بد من استمرار التخلف. وفي حال غياب الهوية وسيطرة الاستبداد والتبعية للغرب بقيمه، تختل القيم وتهتز المعايير والموازين، ويتأخر الشرفاء ويتقدم ويطفوا الفاسدون، وعندئذ يسيطر الفساد. ومع الفساد لا تسأل عن العدالة الاجتماعية ولا عدالة التوزيع؛ وبالتالي يتفاقم الفقر ويزداد المهمشون فقرًا وتهميشًا وتزداد البلاد تخلفًا يستلزم الجهل، مما يؤهل لإعلام يغيب العقول أو احتراب أهلي، لأن الجهل هو السائد والمسيطر. وهذه هي الحال التي تستقر فيها إسرائيل؛ حيث بلاد متخلفة ومختلفة ومحتربة وتابعة لما تمليه عليها، ولا استقرار لإسرائيل إلا بهذا، كما لا هيمنة لأمريكا إلا على مثل تلك البلاد.
وهذا يفسر علاقة العلمانية بإسرائيل والغرب ومحاولتها المتكررة لإذابة الفوارق مع الكيان الصهيوني، والقول أن إسرائيل نموذج للدولة الديمقراطية، والثناء عليها. وعندئذ تعلم لماذا يأخذ الانقلاب جواز المرور من إسرائيل ومن أمريكا ليستمر، وبهذا تعرف مصدر محاربة الهوية الإسلامية، وتعرف من تخدم تلك العلمانية ومن يرعاها.
لن تجد شريفًا يحارب هذا الدين، ولن تجد وفيًا لمبادئه يحارب هذا الدين، ولن تجد وطنيًا يحارب هذا الدين، بل سترى أجراء، ومتلونون، ومتحولون، وخامات لا ترقى إلى المستوى البشري.
(19)
إن علينا واجبًا نحو أنفسنا بنجاتها واتساقها مع حقيقتنا، وطلب الآخرة ونجاتنا، وتحصيل مصالح الدنيا والآخرة كما ضمنها لنا خالق الدنيا والآخرة سبحانه. كما أن علينا واجبًا نحو البشرية لا أن نأخذ منهم فقط بل أن نحمل لهم دين الله ومنهجه، فلسنا متلقين فقط بل كما نأخذ ما يتوافق مع ديننا فمعنا ما نعطيه للبشرية كذلك، وهو بلا شك أثمن وأغلى.
ولكن شيء من ذلك لن يتحقق إلا بإقامة ما أنزل تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [المائدة:68] هذا ما أمر الله به أهل كل كتاب، وقوله: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ هو الخطاب الأخير على لسان وقلب محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن مأمورون بما أُمر به أهل كل كتاب، فلسنا على شيء، ولا يصح منا أي ادعاء حتى إقامة ما أنزل سبحانه.
(20)
إننا جميعًا ننتظر لقاء الله {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقال تعالى: {إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30]، وقال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5].
وقد أعدّ تعالى، فيما أخبر عباده، يومًا شديدًا وحسابًا دقيقًا، وداران للخلد، وملائكة تسوق الناس إلى حيث يأمر الملِك سبحانه. والله الذي فطر الإنسان بأمانيه الطوال العراض وبشهواته التي تتعدد وتتجدد، وأودع فيه هواجس ومخاوف، أعد سبحانه جزاء على المنهج والعمل والموقف، ودقة الحساب على الأقوال والأعمال والمشاعر والاتجاهات- أعد دارًا تلبي تلك الرغبات التي لا تنتهي بإغراق وإشباع وإطلاق، بل بما يفاجئ هذا المخلوق البشري {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
كما أعد سبحانه دارًا تجتمع فيها المخاوف والشدائد، وفوق تصور ذلك المخلوق {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ . وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:93، 94]، والنزل هو ما أُعد للضيافة على وجه السرعة قبل الضيافة نفسها.
ليس هناك في العقل ما يوجب أن تكون الدنيا على هذا النحو وتلك القوانين، وإنما اقتضت ذلك مشيئة الله تعالى وحكمته، وبمشيئته أيضًا وحكمته وإرادته وقوته فثمة دار أخرى وعالم آخر. يقول البعض انظروا إلى من يحتضر ممن أشرف على الموت، وانظر إلى عينينه ماذا تريان وإلام يتجه بصره، لتعلم أنه ليس حدثًا آليًا، بل هناك خالق، له رسل، يقبض ويتوفى ذلك العبد بعد قضاء امتحانه ليرد إلى العليم الخبير، يحاسبه على ما أنزل تعالى لا على ما حدد ذلك العبد ولا أولئك العبيد، ولا علماني ولا الغرب ولا أي مدعي؛ بل {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ } [الانفطار:19]، ويقول لخلقه يومها {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا} [الأنعام:130]؛ فبهذا احتج تعالى وهذا هو ما أمر به وعلى هذا يحاسب الناس. فحذار من مضلين لا يملكون نجاة نفوسهم ولا أحدًا من الأتباع. صدق الله وكذبوا وليتمّن الله أمره، شاء من شاء، وأبى من أبى. إنه دينه وهو ناصره وهو غارس نبته من المؤمنين وراعيهم ومتكفل أمرهم وكفي به وليًا ونصيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف: