القساة في بيوتهم!
والمتأمل لأحوال الناس يلمس بيده الخلل، ويبصر بعينه الزلل في تعاملاتهم مع بعضهم من خلال الكثير من صور العنف المتبادل والقسوة المتقابلة.
مثل الأعاصير المدمِّرة، والبراكين المزمجرة، والزلازل المهلكة، والنيران المحرقة، والفيضانات المُغرقة يكون العنف الأُسَري في ضرره وأثره.
فهو يضرب الأُسرة في الصميم، ويهاجم الوشائج بلا هوادة، ويجتاح العواطف بلا رحمة، ويُغرق الضحايا في لُجج من الهموم والغموم، فتصبح البيوت كالسجون الخانقة، والمقابر الموحشة، والفيافي المهلكة، لأنها قلاع مهدمة من الداخل، ظاهرها الجمال والكمال والرحمة، وفي باطنها الفواجع والمواجع والحسرات!
تَرى صُورًا تُعجبُ الناظرين *** ومخبرَةً تحتها فاسدة
وفي البيوت المسكونة بالعنف يتحوَّل الزوج إلى جلاَّد، والوالد إلى سجَّان، والابن إلى حسرة، والبنت إلى ألم، والقريب إلى أشبه ما يكون بالعقرب اللاذعة والحيَّة اللاسعة، والمرأة إلى لبؤة كاسِرة لا تتقن إلا الخمش والنهش، فأيُّ حياةٍ بئيسة كهذه الحياة التعيسة؟! وأيُّ أُنسٍ في منزل تسوسه القسوة والفظاظة، وتسكنه الجفوة والغلظة؟ وأيّ سعادة في دار أهلها متشاكسون متخاصمون، يتقابلون فيتدابرون؟! وأيّ لذَّة في حياة ملؤها الأحزان والحسرات والدموع والعبرات؟! وأيَّ علاقة مع من لا يَرحم، أو وشيجة مع من لا يُحسنُ الرفق، أو عاطفة مع من لا يعرف طعم العفو والتسامح واللين والشفقة؟!
إنها حياة أشبه ما تكون بمن حُكم عليه بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة بين أنياب ومخالب الوحوش الضارية!
مساكين ضحايا العنف الأُسَري! فهم بؤساء يمشون على وجه الأرض، وتعساء يعانون من غُصص الحياة، وأشقياء يقتاتون الألم ويتجرعون مرارة العيش! لأن أحزانهم أتتهم من أحبابهم، وجراحهم كانت بأيدي أقاربهم.
جَوْرُ الغريبِ مصيبةٌ لكنما *** جورُ القريبِ هو البلاءُ الأعظم
فإلى من يفِرُّون؟ وبمن يستنجدون؟ وعلى من يشكون؟ وقد أُوصدت في وجوهم أبواب أحبابهم، وأغلقت دونهم مسالك أقاربهم، ولم يبق لهم إلا باب الله الذي لا يُغلق!
متى أرتجي يومًا شفاءً من الضنى *** إذا كان جانيه عَلَيَّ طبيبي
وقد آلمني ما وقفت عليه من علاقات باهتة، وعواطف خامدة، وتعاملات جاحدة، ونفوس حاقدة بين القرابات في أُسرةٍ واحدة!
فقلتُ وما تُغني الديار وقربُها *** إذا لم يكن بين القلوب تقارب
فيا لله! كم من أكباد مقروحة، ونفوس مجروحة، وقلوب مكلومة، وأرواح مغمومة تعالج الحزن الدائم والهم الجاثم، فلا ترقأ لأصحابها عين، ولا يغمض لهم جفن، ولا تسكن لهم نفس، فهم حيارى لا دليل لهم، وحزانى لا مواسي لألمهم، وجرحى لا مداوي لأحزانهم.
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدُّها *** شِبهُ الزَّجاجةِ كسرُها لا يُشعبُ
ورأيت الظلم الفادح، والجور الجارح، والقهر الذابح يظهر من خلال تصرفات رعناء، وتعاملات شوهاء، وتعديات حمقاء، تعجب منها كلَّ العجب بين من يسكنون تحت سقف واحد، وتضمُّهم جدران بيت واحد.
وإنَّ امرءًا لا يتَّقي سُخطَ قومِه *** ولا يحفظُ القربى لَغَيْرُ موفَّق
فأصبحوا يعيشون حياة البؤس والشقاء، والضيق والضنك، والكربات والنكبات حتى آل الحال ببعضهم إلى تمني المنايا، والسعي في إزهاق روحه، وإتلاف نفسه، وهام على وجهه في كلِّ جانب!
وقد يصبرُ المغلوبُ رغمًا على الأذى *** كما يئسَ الظَّمآنُ من لذَّةِ الشُّربِ
ولا عجب أن نرى العنف الأُسَري يضرب بأطنابه بين أهله وأربابه ممن لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فماذا يرجون من أجر؟ وما يأملون من ثواب؟
ولكن الذي يفري الكبد، ويؤلم القلب، ويجلب الحسرة المرَّة ما نراه بأمِّ أعيننا ماثلاً أمامنا في حالات كثيرة، مفجعة وموجعة، مخزية ومزرية من استبداد واستعباد، وجور وحيف، وظلم وقسوة، وجحود وكنود، وتعدٍّ وتشفٍّ بين من يؤمنون بالبعث، ويصدِّقون بالجزاء، ويعتقدون حصول الحساب والعقاب والحسنات والسيئات!
فأيُّ إيمان لا يحجز عن ظلم؟
وأيُّ يقين لا يردع عن جور؟
وأيُّ تصديق لا يمنع من تعدٍّ؟
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البخاري:6484).
» (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الترمذي:2627).وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح ابن ماجة:3193).وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح النسائي:3105).وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (مسلم:84).إن المؤمن تناديه نفسه الأمّارة بالسوء أحيانًا للتشفي والانتقام، وَتَؤُزُّه إلى القهر والإجرام، وتزين له التعدي على بعض الأنام، فيحجزه إيمانه بالله، ويمنعه يقينه بأنه سيلاقي الجزاء في يوم القضاء، ويحول خوفه من عذاب السعير بينه وبين نزعات النفس ونزغاتها، وشهواتها ونزواتها، وهنا تخمد نار الفتنة، ويسكن إعصار الانتقام، ويذهب الإيمان بوحر الصدور!
فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الترمذي:2021).وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع:167).وعنه رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح ابن ماجه:3396).والأصل في المسلم أنه لين الجانب، سهل العريكة، طيب النفس، رقيق الإحساس، مدنف الضمير، يحمل بين ضلوعه قلبًا رقيقًا شفيقًا لكلِّ ذي قُربى ومُسلم.
فعن عياض بن حماد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (مسلم:2865).وعن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (السلسلة:الصحيحة:1691).وعن جابر وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحي الترغيب: 2676).وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع:6669).وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع:1231).وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (السلسلة الصحيحة: 2/378).وأما الفظاظة والغلظة، والقسوة والجفوة فهي ديدن ضعاف الإيمان، قليلي اليقين، رقيقي الديانة، فإنهم إذا خاصموا فجروا، وإذا ملكوا استعبدوا، وإذا سيطروا تجبَّروا، وإذا قدروا قهروا!
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (البخاري:2459).وإنما خلقت النار الحامية لإذابة القلوب القاسية، وإرغام النفوس المتجبِّرة، وإذلال الأرواح المتكبرة، فويل لهم مما كسبت أيديهم، وويل لهم مما يُجرمون! فعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (البخاري:4918).وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (السلسلة الصحيحة:932).وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (صحيح الجامع:1878، ثم تراجع الشيخ وضعفه، انظر الضعيفة: 5/328).والمتأمل لأحوال الناس يلمس بيده الخلل، ويبصر بعينه الزلل في تعاملاتهم مع بعضهم من خلال الكثير من صور العنف المتبادل والقسوة المتقابلة.
ولا خيرَ في قربى بغير مودّةٍ *** ولربَّ منتفعٍ بودِّ أباعدِ
وإذا القرابةُ أقبلت بمودَّةٍ فاشدد *** لها كفَّ القبول بساعدِ
ومن غاص في لجج المشكلات الأُسَرية اضطر غير مرَّة إلى عرك أذنه وفرك عينه؛ ليتأكد أن ما يراه أمام ناظريه واقعًا مشاهدًا، وليس أفلام عنف مرعبة، أو حكايات أسطورية مخيفة!
يشقى رجالٌ ويشقى آخرون بهم *** ويسعدُ الله أقوامًا بأقوامِ
(ملحوظة: يراجع في هذا كتابي: (العنف الأسري))
- التصنيف: