القساة في بيوتهم!

منذ 2015-05-14

والمتأمل لأحوال الناس يلمس بيده الخلل، ويبصر بعينه الزلل في تعاملاتهم مع بعضهم من خلال الكثير من صور العنف المتبادل والقسوة المتقابلة.

مثل الأعاصير المدمِّرة، والبراكين المزمجرة، والزلازل المهلكة، والنيران المحرقة، والفيضانات المُغرقة يكون العنف الأُسَري في ضرره وأثره.

فهو يضرب الأُسرة في الصميم، ويهاجم الوشائج بلا هوادة، ويجتاح العواطف بلا رحمة، ويُغرق الضحايا في لُجج من الهموم والغموم، فتصبح البيوت كالسجون الخانقة، والمقابر الموحشة، والفيافي المهلكة، لأنها قلاع مهدمة من الداخل، ظاهرها الجمال والكمال والرحمة، وفي باطنها الفواجع والمواجع والحسرات!

تَرى صُورًا تُعجبُ الناظرين *** ومخبرَةً تحتها فاسدة

وفي البيوت المسكونة بالعنف يتحوَّل الزوج إلى جلاَّد، والوالد إلى سجَّان، والابن إلى حسرة، والبنت إلى ألم، والقريب إلى أشبه ما يكون بالعقرب اللاذعة والحيَّة اللاسعة، والمرأة إلى لبؤة كاسِرة لا تتقن إلا الخمش والنهش، فأيُّ حياةٍ بئيسة كهذه الحياة التعيسة؟! وأيُّ أُنسٍ في منزل تسوسه القسوة والفظاظة، وتسكنه الجفوة والغلظة؟ وأيّ سعادة في دار أهلها متشاكسون متخاصمون، يتقابلون فيتدابرون؟! وأيّ لذَّة في حياة ملؤها الأحزان والحسرات والدموع والعبرات؟! وأيَّ علاقة مع من لا يَرحم، أو وشيجة مع من لا يُحسنُ الرفق، أو عاطفة مع من لا يعرف طعم العفو والتسامح واللين والشفقة؟!

إنها حياة أشبه ما تكون بمن حُكم عليه بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة بين أنياب ومخالب الوحوش الضارية!

مساكين ضحايا العنف الأُسَري! فهم بؤساء يمشون على وجه الأرض، وتعساء يعانون من غُصص الحياة، وأشقياء يقتاتون الألم ويتجرعون مرارة العيش! لأن أحزانهم أتتهم من أحبابهم، وجراحهم كانت بأيدي أقاربهم.

جَوْرُ الغريبِ مصيبةٌ لكنما *** جورُ القريبِ هو البلاءُ الأعظم

فإلى من يفِرُّون؟ وبمن يستنجدون؟ وعلى من يشكون؟ وقد أُوصدت في وجوهم أبواب أحبابهم، وأغلقت دونهم مسالك أقاربهم، ولم يبق لهم إلا باب الله الذي لا يُغلق!

متى أرتجي يومًا شفاءً من الضنى *** إذا كان جانيه عَلَيَّ طبيبي

وقد آلمني ما وقفت عليه من علاقات باهتة، وعواطف خامدة، وتعاملات جاحدة، ونفوس حاقدة بين القرابات في أُسرةٍ واحدة!

فقلتُ وما تُغني الديار وقربُها *** إذا لم يكن بين القلوب تقارب

فيا لله! كم من أكباد مقروحة، ونفوس مجروحة، وقلوب مكلومة، وأرواح مغمومة تعالج الحزن الدائم والهم الجاثم، فلا ترقأ لأصحابها عين، ولا يغمض لهم جفن، ولا تسكن لهم نفس، فهم حيارى لا دليل لهم، وحزانى لا مواسي لألمهم، وجرحى لا مداوي لأحزانهم.

إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدُّها *** شِبهُ الزَّجاجةِ كسرُها لا يُشعبُ

ورأيت الظلم الفادح، والجور الجارح، والقهر الذابح يظهر من خلال تصرفات رعناء، وتعاملات شوهاء، وتعديات حمقاء، تعجب منها كلَّ العجب بين من يسكنون تحت سقف واحد، وتضمُّهم جدران بيت واحد.

وإنَّ امرءًا لا يتَّقي سُخطَ قومِه *** ولا يحفظُ القربى لَغَيْرُ موفَّق

فأصبحوا يعيشون حياة البؤس والشقاء، والضيق والضنك، والكربات والنكبات حتى آل الحال ببعضهم إلى تمني المنايا، والسعي في إزهاق روحه، وإتلاف نفسه، وهام على وجهه في كلِّ جانب!

وقد يصبرُ المغلوبُ رغمًا على الأذى *** كما يئسَ الظَّمآنُ من لذَّةِ الشُّربِ

ولا عجب أن نرى العنف الأُسَري يضرب بأطنابه بين أهله وأربابه ممن لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فماذا يرجون من أجر؟ وما يأملون من ثواب؟

ولكن الذي يفري الكبد، ويؤلم القلب، ويجلب الحسرة المرَّة ما نراه بأمِّ أعيننا ماثلاً أمامنا في حالات كثيرة، مفجعة وموجعة، مخزية ومزرية من استبداد واستعباد، وجور وحيف، وظلم وقسوة، وجحود وكنود، وتعدٍّ وتشفٍّ بين من يؤمنون بالبعث، ويصدِّقون بالجزاء، ويعتقدون حصول الحساب والعقاب والحسنات والسيئات!

فأيُّ إيمان لا يحجز عن ظلم؟

وأيُّ يقين لا يردع عن جور؟

وأيُّ تصديق لا يمنع من تعدٍّ؟

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخاري:6484).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أَمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم» (صحيح الترمذي:2627).

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (صحيح ابن ماجة:3193).

وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الناس مؤمن يجاهدُ في سبيل الله بنفسه وماله، ثم مؤمنٌ في شِعبٍ من الشِّعاب يتَّقي الله ويدعُ الناس من شرِّه» (صحيح النسائي:3105).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُفَّ شرَّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك» (مسلم:84).

إن المؤمن تناديه نفسه الأمّارة بالسوء أحيانًا للتشفي والانتقام، وَتَؤُزُّه إلى القهر والإجرام، وتزين له التعدي على بعض الأنام، فيحجزه إيمانه بالله، ويمنعه يقينه بأنه سيلاقي الجزاء في يوم القضاء، ويحول خوفه من عذاب السعير بينه وبين نزعات النفس ونزغاتها، وشهواتها ونزواتها، وهنا تخمد نار الفتنة، ويسكن إعصار الانتقام، ويذهب الإيمان بوحر الصدور!

فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كظمَ غيظًا وهو يستطيعُ أن يُنفِذَه، دعاه اللهُ يوم القيامةِ على رؤوس الخلائق، حتى يُخيره في أيِّ الحور شاء» (صحيح الترمذي:2021).

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة» (صحيح الجامع:167).

وعنه رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من جُرعَةٍ أعظَمُ أجرًا عِندَ الله مِن جُرعةِ غيظٍ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله» (صحيح ابن ماجه:3396).

والأصل في المسلم أنه لين الجانب، سهل العريكة، طيب النفس، رقيق الإحساس، مدنف الضمير، يحمل بين ضلوعه قلبًا رقيقًا شفيقًا لكلِّ ذي قُربى ومُسلم.

فعن عياض بن حماد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة ثلاثة، ذو سلطان مقسط موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال» (مسلم:2865).

وعن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها» (السلسلة:الصحيحة:1691).

وعن جابر وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النارُ غدًا؟ على كلِّ هيِّنٍ، قريبٍ، سهلٍ» (صحي الترغيب: 2676).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنونَ هيِّنون ليِّنون، مثل الجمل الأُنُف الذي إن قِيد انقاد، وإن سيق انساق، وإن أنخته على صخرةٍ استناخ» (صحيح الجامع:6669).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحاسِنهُم أخلاقًا، المُوطَّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلفونَ، ولا خير فيمن لا يألفُ ولا يُؤلَف» (صحيح الجامع:1231).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحبَّكم إليَّ؛ أحاسِنُكم أخلاقًا، الموَطَّؤونَ أكنافًا، الذين يألفونَ ويؤلَفون...» (السلسلة الصحيحة: 2/378).

وأما الفظاظة والغلظة، والقسوة والجفوة فهي ديدن ضعاف الإيمان، قليلي اليقين، رقيقي الديانة، فإنهم إذا خاصموا فجروا، وإذا ملكوا استعبدوا، وإذا سيطروا تجبَّروا، وإذا قدروا قهروا!

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (البخاري:2459).

وإنما خلقت النار الحامية لإذابة القلوب القاسية، وإرغام النفوس المتجبِّرة، وإذلال الأرواح المتكبرة، فويل لهم مما كسبت أيديهم، وويل لهم مما يُجرمون! فعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُنبِّئكُم بأهلِ الجنَّة؟ كُلّ ضعيفٍ مُتضَعّف. ألا أُنبئكُم بأهل النار؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستكبِرٍ» (البخاري:4918).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ الضعفاء المظلومون. ألا أنبئكم بأهل النار؟ كلُّ شديد جعظري» (السلسلة الصحيحة:932).

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يبغضُ كلَّ جعظريِّ جوَّاظٍّ، سَخّابٍ في الأسواق، جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بالدنيا، جاهلٍ بالآخرة» (صحيح الجامع:1878، ثم تراجع الشيخ وضعفه، انظر الضعيفة: 5/328).

والمتأمل لأحوال الناس يلمس بيده الخلل، ويبصر بعينه الزلل في تعاملاتهم مع بعضهم من خلال الكثير من صور العنف المتبادل والقسوة المتقابلة.

ولا خيرَ في قربى بغير مودّةٍ *** ولربَّ منتفعٍ بودِّ أباعدِ

وإذا القرابةُ أقبلت بمودَّةٍ فاشدد *** لها كفَّ القبول بساعدِ

ومن غاص في لجج المشكلات الأُسَرية اضطر غير مرَّة إلى عرك أذنه وفرك عينه؛ ليتأكد أن ما يراه أمام ناظريه واقعًا مشاهدًا، وليس أفلام عنف مرعبة، أو حكايات أسطورية مخيفة!

يشقى رجالٌ ويشقى آخرون بهم *** ويسعدُ الله أقوامًا بأقوامِ

 

(ملحوظة: يراجع في هذا كتابي: (العنف الأسري))

المصدر: موقع هاجس

عبد اللطيف بن هاجس الغامدي

مدير فرع لجنة العفو واصلاح ذات البين - بجدة .

  • 1
  • 0
  • 5,613

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً