قيح النفوس وقيح الأجساد

منذ 2015-06-20

كثيرًا ما تخدعنا نفوسنا عن نفوسنا! فنظن فيها الخير ولا نرى شرها، وبقدر ما لا نرى شرها يحجب عنا معرفة ربنا تعالى وفضله، ونُخدع فيها فنثق فيها بعض الثقة، ونركن إليها بعض الركون، وبمقدار هذه الثقة وهذا الظن بمقدار ما نتخلى عن الافتقار إلى الله..

يقول تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء من الآية:79]، إنا علمنا أن أصل الطريق إلى الله تعالى أن تعرف ربك وتعرف نفسك، فمن عرف ربه عرف أن منه الخير كله إعدادًا وإمدادًا، ومن عرف نفسه عرف أن منها الشر والسوء وأنها المتسببة فيه، وأن الشر الواقع في الوجود هو بسبب ذنوبها بارتكاب لمحرم أو بتفريط في واجب.

لكن كثيرًا ما تخدعنا نفوسنا عن نفوسنا! فنظن فيها الخير ولا نرى شرها، وبقدر ما لا نرى شرها يحجب عنا معرفة ربنا تعالى وفضله، ونُخدع فيها فنثق فيها بعض الثقة، ونركن إليها بعض الركون، وبمقدار هذه الثقة وهذا الظن بمقدار ما نتخلى عن الافتقار إلى الله..

وما دمنا تركنا قدرًا من الافتقار ثقة في نفوسنا، وظنّنا الواهم بها عندئذ نُحرم من التوفيق، وحرمان التوفيق يعني الخذلان، وعندئذ تحدث المعصية، والمعصية سبب الشرور، يقول ابن تيمية مرارًا: "والذنوب هي أصل الشرور في العالم"، والذنوب تشمل التفريط في أمر الله وتضييع الواجبات والحقوق وارتكاب المحرمات والمظالم.

يقول البعض: لما نظرت في جراح الأجساد وما يعتريها من الصديد والقيح، ويلجأ العبد إلى معالجة الآفة ليتخلص من التغير الذي اعترى جسده ليعود وفق ما جبله الله عليه، فإذا بقيح النفوس أشد، وآفاتها أقبح من صديد الأجساد، وهي ممتلئة بهذا القبح بما يزكم الأنوف ويمرض الحياة، ومصداقه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون من الأية:1]، وإذا بالملاذ والاستقامة بصحة النفوس، وصحتها فيما شرع الله لها، فإن تُركت لنفسها تُركت لقبائحها، فإذا بكل مساحة لم تغطها بأمر الله تعالى تحتاج إلى استغفار لتتقي شرها وسوءها..

حتى إذا صحّت التقوى وتمكنت من العبد وقاه الله شر نفسه، قد جاء في عدد من أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ هو صلى الله عليه وسلم فيها من شر نفسه قبل أن يسأل ويدعو، ويجعلها في خطبة الحاجة في الجمع والعيدين والنكاح: «ونعوذ بالله من شر أنفسنا وسيئات أعمالنا» (صحيح النسائي:1403)، ويعلّم خير الأمة بعده، الصدّيق الأكبر، دعاء للصباح والمساء وحين مضجعه يبدأ فيها بالاستعاذة من شر نفسه، ويعِد بعض الناس أنه إن أسلم أن يعلمه كلمتين ينفعانه؛ فلما أسلم علّمه: «اللهم ألْهمني رشدي وقني شر نفسي» (صححه ابن القيم في الوابل الصيب:199). 

لذا يدعو يوسف: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [يوسف من الآية:101]، فيتبرأ من حول نفسه إلى ولاية ربه، ويخاف إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم من الآية:35]، فيخاف إن وُكل لنفسه، ويقول الله لنبيه: {لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك لَقَدْ كِدْت تَرْكَن إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، ويقول له: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، ثم يجمع له الأمر فيقول: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].

ولما يعلن الراسخون في العلم إيمانهم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران من الآية:7]، هنا يدعون راجين مرتعدين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، ويجتهد رسول الله في قسَمه ويمينه فيقول: «لا ومقلب القلوب»، ويقول في دعائه: «أعوذ بك أن تضلني، الجن والإنس يموتون، وأنت الحي الذي لا تموت» (رواه مسلم).

إذا رأيت آفات جسدك فاعلم أن قبحها قليل، وقبح النفوس بآفاتها وأهوائها أشد، وأن الخير في فضله تعالى، فلا تغترن بها ولا تثق بها بل اتهمها وتواضع لخالقها، ولخلقه؛ فلست أفضل منهم بل ما بك من خير فبمقدار فضله، فعليه توكل وإليه فالْجأ، وطامِن من نفسك، وتواضع لعبيده، فصديد النفوس أقبح وأنتن مما ترى، ولو وكلَت إليها الأمور لبلغ الفساد للسماوات والأرض، ولولا فضل الله أن وقانا شرورها لكان وكان..

لهذا يقرن تعالى العبادة بالتوكل، فالتوكل هو الاعتماد على الخالق لا على النفس ولو دخلت النفس لأفسدت الأمور.. أرأريت؟ كل الخير فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كل كلمة أوحِيت إليه، {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء من الآية:79]، يعني بسببها لكن الكل بتقدير رب العالمين، فما كان من خير فمحض فضله، وما كان من سوء فعقوبة إما على معصية ومخالفة، وإما على فراغ مما أمر الله تعالى به.. والكثير قد يفطن للأولى ولكن القليل من يفطن للثانية، وهي جرم الفراغ من القيام بما أمر تعالى. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 6,351

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً