ليلة مظلومة
ليلة الثامن والعشرين من رمضان.. تلك الليلة التي رغم أنها ليلة عتق من النار كسائر الليالي إلا أن راغبي ذاك العتق فيها والثابتين على التماس الفتح خلالها يعتبروا ندرة نفيسة وقلة عزيزة! وهذه الليلة على زهد الكثيرين فيها إلا إنها من أحب ليالي رمضان إلى نفسي..
نعم.. إنها تلك الليلة التي تلي الليلة الكبيرة!
والليلة الكبيرة طبعًا أعني بها تلك الليلة التي يعتبرها البعض الليلة الختامية لرمضان وما بعدها هو الوقت الإضافي، أو الوقت بدل الضائع كما في مصطلحات كرة القدم! الليلة الكبيرة طبعًا هي ليلة السابع والعشرين العتيدة
وبعيدًا عن الخلاف الكبير في تحديد ليلة القدر، وبغض النظر عن الأقوال الكثيرة التي صال وجال بينها أهل العلم، فأنا أحب ليلة السابع والعشرين سواءً كانت هي الليلة المنشودة أم لا، أحبها لما أجد فيها من إقبال على الله من أناس لم أتعود منهم ذلك، أحبها لما أرى فيها من عمران لبيوت الله أتمناه في كل ليلة من رمضان، ومن غير رمضان وليس كل ما يتمناه المرء يدركه..
أحبها لما أشهد فيها من اجتهاد الشباب في طاعة الله ولما يتبع ذلك من مداومة بعضهم ممن ذاق وعرف، ثم اغترف وفهم فلزم والتزم، وأحبها لأن ظني بالله أنه لا يرد هذا القدر من الضارعين بين يديه ولا يخزي هؤلاء البكائين الذين أحسب ألا نعدم فيهم مخلصًا تقيًا خفيًا، لعلنا نرحم بصالح عمله أو بدعوة صادقة خرجت من قلبه..
أحبها لكل ذلك ولغيره لا ينغص على هذا الحب لها وذاك الفرح بها إلا ما بعدها، ما بعدها على المدى البعيد والقريب..
أما عن البعيد: فتلك المشاهد التي أعرفها جيدًا والتي تبدأ ليلة العيد حين تفتح أبواب كانت قد غلقت، وتغلق أبواب كان قد فتحت، وتستبدل دمعات الخشية بأصباغ الزينة تلطخ الوجوه التي كانت متوضأة، بينما تتوسط أعمدة الدخان الأزرق والأبيض وسائر الألوان تلك الأنامل التي كانت منذ ساعات ذاكرة شاكرة مسبحة..!
و أما عن المدى القريب: فهي تلك الليلة المظلومة التي تلي تلك الليلة السعيدة، ليلة الثامن والعشرين حين تبدأ المساجد مرانها على الخواء على عروشها، والعودة لسابق عهدها وفراغ صفوفها، والشكوى من الهجران..!
ليلة الثامن والعشرين من رمضان..
تلك الليلة التي رغم أنها ليلة عتق من النار كسائر الليالي إلا أن راغبي ذاك العتق فيها والثابتين على التماس الفتح خلالها يعتبروا ندرة نفيسة وقلة عزيزة! وهذه الليلة على زهد الكثيرين فيها إلا إنها من أحب ليالي رمضان إلى نفسي، ربما لأنها تحمل ذكرى أيام البدء، ولله در القائل: "واهًا لأيام البدء"!
نعم إنها ليلتي!
ليلة بدأت فيها ما يمكن تسميته بمحاولة الاستقامة والتسنن والسير إلى الله، أو ما يعرف بين الناس تجوزًا بكلمة: "التزام"، وإلا فما أثقلها من كلمة نسأل الله أن نكون أهلاً لها..
كانت هذه الليلة على فراغها وخلو مساجدها هي أول لحظات علاقتي الحقيقية ببيوت الله، وبكلامه وبأهله وخاصته، كنت في تلك الأيام في عامي الثالث من دراستي الجامعية، وقد ضقت ذرعًا بالبعد عن الله والغفلة عن إرضائه، أسأل الله العفو والعافية.
أذكر أنه كان لي زميل وصديق أحسبه من الصالحين، لا أنسى فضله جزاه الله عني خيرًا، ذهبت إليه في اليوم السابع والعشرين من رمضان وأنا مثقل بالذنوب، مكبل بهمومها، وأنا الذي طالما صددت محاولاته لدعوتي وتغافلت عن صحبته التي أحسبها صالحة، لم أكن حينئذ قد سمعت بالاعتكاف وهو أمر لم يكن في ذلك الوقت معروفًا كما هو الآن -أقصد قبل تقنينه وتجفيف منابعه الآن-.
ذهبت إلى زميلي وكلي رغبة في أن يساعدني للإقبال على ربي، ويدلني على سبيل أصلح فيه ما بيني وبينه، ولم يتأخر الرجل، لقد دعاني لعكوف معهم في بيت من بيوت الله يعكفون فيه منذ أول ليال العشر، لكن! يا أبو حميد المذاكرة! هنعمل إيه والامتحانات على الأبواب؟! هكذا قلت مستفهمًا..
قال متبسمًا: "وفيها إيه؟! هنذاكر سوا في بيت الله ونتلمس بركة الوقت مع الطاعة".
فكرت قليلاً ثم قلت لنفسي: وماذا في هذا؟! الرجل دومًا من أوائل الدفعة وترتيبه يسبق ترتيبي، ولم تنهه صلاته أو عبادته يومًا عن التحصيل والتفوق، اتخذت قراري في نفس اللحظة وذهبت بعد الانتهاء من (سكاشن) ذلك اليوم إلى بيتي لأجهز حاجياتي وكتبي، وأستأذن والداي، ثم ذهبت لألحق ببيت الله ليلة الثامن والعشرين من رمضان.
لم يعد متبقيًا إلا ثلاث ليال من الشهر، لكن! والله كنّ من أجمل ليالي حياتي وأكثرهن سكينة وبركة، كانت أولهن ليلة الثامن والعشرين، مسجد صغير هو؛ أو ما يعرف في مصر بالزاوية، بسيط قليل البهرج حلو المعشر، كحال رواده وأعمدة عبادته الذين رحبوا بالشاب الجديد الذي لا يستطيع قراءة سطر في كتاب ربه دون أن يخطىء، ويتلعثم وكأنه تلميذ في رياض الأطفال!
رحبوا به وألفوا قلبه كأنما هو أخ قديم مخضرم بينهم، لم يشعروه لحظة بغربة أو بأنه مختلف عنهم، بل مثله مثلهم يعامل كما يعامل أعلمهم، لم يكن الإمام فاره الصوت ولم يكن المأمومون كثر، ولم تكن وسائل الإبهار المسجدية المزخرفة والصوتيات الرنانة قد عرفت بعد لكنني انبهرت!
انبهرت وندمت أيما ندم، ندمت أنني تأخرت، انبهرت بشعور جديد لم أعتده! شعور الحب في الله وألفة الصحبة الصالحة وسكينة المكث في بيوت الله وروعة القرآن العظيم.. ما أجملك وأحناك يا ليلة الثامن والعشرين! يا من كنت بداية معرفتي بتلك الأحاسيس، بداية معرفتي بجلسة الضحى ودروس العلم والمقرأة، وما أدراك ما المقرأة..!
ذكريات كثيرة تتلاطم في صدري كلما استعدت تلك الأيام، لا أريد أن أشغلك عزيزي القارىء بها واعذرني إن كنت قد استفضت فيها إنما فقط أردت أن أفضفض معك قليلاً بين يدي تلك الليلة الهادئة، أردت أُذَكِّر وأتذكر ليلة الثامن والعشرين..
ليلة من ليالي رمضان كانت بداية خير لإنسان ومنحى غير حياته كلها، لا أحد يدري أين البركة ولا متى يأتي التغيير ولا كيف يأتي الفتح، إن ليلة ترزق فيها سجدة صادقة أو تتلذذ فيها بلحظة خلوة رائقة ودعوة صادقة، تنكسر فيها بذلة وخضوع مظهرًا الندم مخبتًا في خشوع قد تكون خير ليلة تمر عليك منذ ولدتك أمك! وربما تتغير حياتك كليةً بعدها!
حتى لو قل السالكون وندر الطارقون لأبواب العتق المفتوحة في كل ليلة من رمضان، فهل عساك أن تكون من أولئك القليل الذين يطرقون الأبواب تلك الليلة، فتنال فيها عتقًا من النيران وفوزًا بالجنان، ولا تكونن من الزاهدين في أي ليلة لعلها تكون هي الليلة.. ليلة الفتح.
حتى لو كانت تلك الليلة التي يظلمها كثير من الناس ليلة الثامن والعشرين.. ليلتي!
- التصنيف: