الكرة... اجتماعها سراب وفرقتها خراب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فبينما الحملة الصهيونية البربرية على غزة تتصاعد تستمر كثير من صور اللهو المباح منه والمحرم في سائر بلاد المسلمين رغم التعاطف الظاهر مع محنة المسلمين في غزة، حتى من هؤلاء اللاهين، ونظرًا لأنهم يشعرون بالجرح فإن كثيراً منهم يرضي نفسه بأن يكون إبداء التعاطف مع محنة إخوانه بعبارة تـُكتب على قميص اللاعبين أو بهتاف في المدرجات.

وهذا ما حدث في المباراة التي أقيمت في مصر بين فريق "الأهلي" القاهري وفريق "الإسماعيلي" في ملعب الأخير بمحافظة الإسماعيلية، والتي ارتدى فيها "الفريقان" عبارات تعاطف مع غزة، وردد جمهور الفريقين هتافات حماسية، وبدأت المباراة وكادت أن تمر بسلام، إلا أن أحد اللاعبين اختطف هدف الفوز في الدقائق الأخيرة، ليتبادل الجمهور الشتائم، ويتقاذفوا بكل ما طالته أيديهم حتى كراسي المدرجات!

من جانبها لم تفوِّت صحيفة (ها آرتس) الإسرائيلية الفرصة لكي تـُطمْئِن بني جلدتها أن مظاهرات الغضب العربية مظاهرات جوفاء، ولكي تلمز العربَ عموماً بالتمزق والتشتت.

وهذا الموقف المأساوي يحتاج منا إلى عدة وقفات:

الأولى: لعب الكرة على سبيل الندرة وبدون جوائز مالية من باب التريُّض جائز، وأما إذا كانت فيها مسابقة وجوائز فتحرم أياً ما كان مصدر هذه الجوائز؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ أَوْ خُفٍّ» [رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني].

ويزداد الأمر خطراً إذا كانت هذه الجوائز من المال العام، وأخطر من ذلك أن يتخذها البعض حرفة.

الثانية: حسن خلق بعض اللاعبين أو اهتمامهم بقضايا الأمة لا يقلب الحرام حلالاً، وغايتهم أن يكونوا أفضل من غيرهم؛ حيث يغلب على من امتهن اللهوَ أن يكون شيمته اللهو في كل أمره.

الثالثة: أن مشجع الكرة يمثل صورة مأساوية للإنسان المتبع للهوى، وكل ذلك تحت مسمى الرياضة، والمشجـِع لا يمارس الرياضة، بل يمكث جامعاً عظام بدنه بعضَها إلى بعض في مدرج من مدرجات الملاعب، أو حتى على أريكته في بيته معطياً حواسه كلها لما يراه، اللهم إلا يده التي تلقم فمه أنواعاً من المأكولات الجاهزة، مما يعني أنه في حالة دمار صحي.

ثم إن كثيراً منهم يـُمرض نفسه بنفسه بداء العشق؛ حيث يشجع نادياً ما، إما لأنه من محافظته، وإما لأنه كان الأقوى عندما بدأ يشجع الكرة، أو غير ذلك من الانتماءات، ثم يتفانى في حبه وتتبع مبارياته في التلفاز، ومنهم من يسافر خلفه، والغني يتبرع بالملايين من أجل ناديه المفدَّى، والفقير يقتطع من قوت أولاده حتى يدفع ثمن التذكرة، كل هذا والنادي يتغير لاعبوه وإدارته ومبانيه ولون قميصه، وهو يحب ناديه الحب الأعمى، وهذا هو داء العشق الذي يقعد بصاحبه عن مصالح دينه ويعوِّق القلب عن الانطلاق في الميادين التي خلق لها.

الرابعة: ويلزم من هذا "الولاء" للنادي ضياعُ الولاء للدين، فيشتم الجمهورُ اللاعبين من الفريق المنافس، وربما كان ذلك بأقذع الألفاظ، كقذف الأمهات، ونحو ذلك، ويتضارب الجمهور بلا مراعاة لحرمة الدم المسلم والعرض المسلم، وربما نشبت صراعات داخل البيت الواحد، بين الرجل والمرأة، والابن وأمه.

وهذه الصورة وإن لم تكن عامة فهي شائعة، ومع ذلك يصمت الجميع على هذا الداء العضال، مع أنه في كل الحالات الجمهور هو الخاسر، فإذا فاز فريقه فما هي إلا لحظات نشوة سريعا ما تذهب، تعطل فيها عن أداء عباداته، وضاعت فيها أوقاته بلا فائدة، أما إذا خسر فكأنها صاعقة نزلت بقلب الجمهور الحزين، لا تنفك عنه حتى تـُسيل الدماء، أو تشعل الخلاف، أو على الأقل تحمله من الهم ما يضيق عليه معيشته، ويوغر صدره على إخوانه ممن يعارضه؛ وهو في غنى عن ذلك كله، خاصة إذا كان فريقه لا يعبأ أصلاً بفرحه أو حزنه، بل ليس هم إلا جمع المال، سواء أكان فائزا أم خاسرا.

الخامسة: أنه مما يندى له الجبين أن يتبنى بعضُ الدعاة منهجَ تبرير واقع الناس، بدلاً من السعي إلى تغييره، ويخدعون أنفسهم بزعمهم أن الإسلام حض على الرياضة، دون أن يوازنوا أدنى موازنة بين هذا المفهوم في الإسلام وما يحدث الآن من النظام الرياضي الغربي الذي جاء وسط منظومة أنظمة غربية.

وغاية ما يمكن أن يتمسك به هؤلاء الزعم بأن الرياضة توحِّد الشعوب، ويمكن استثمارها في ذلك، ولم أرَ باطلاً ظاهر البطلان يتواطأ جمعٌ كبير من العقلاء على ترديده كهذا.

بل المسابقات الرياضية تفرق بين الشعوب، كما هو الحاصل بين أبناء أوروبا، وأيضًا كما هو الحال عندنا، ومرض التشرذم والعداء بين الأجناس الأوروبية مرض عضال عندهم، ولكنهم -ومنذ الحرب العالمية الثانية- وهم يكرسون جهوداً ضخمة لمعالجة آثار هذا التشرذم، ولكنهم في ذات الوقت لا يستطيعون القضاء على صور اللهو؛ لأنه جزء رئيسي من التركيبة النفسية الأوروبية، ولهم في ذلك وسائل شتى.

والحاصل أنه في هذا المرض وغيره يـُصدِّر لنا الغرب المرض، ولا يصدِّر لنا الدواء، بينما يسعى هو في معالجة المرض أو محاصرة آثاره الضارة إن كان المرض من النوع الذي لا يطيق الأوروبي البعد عنه كشهوة البطن والفرج والانتصار على الغير ولو في المسابقات الرياضية.

فالصواب أنها تفرق الأمة وتشتتها إلى أصغر جزئيات يرغب الأعداء فيها، فإذا تقابل فريقان عربي وإسلامي غير عربي؛ دفع الجميع لتشجيع الفريق العربي، ثم إذا تقابل نفس هذا الفريق العربي مع فريقنا القومي وجب على الإنسان على الأقل أن يتمنى فوز بلاده، وإلا كان خائناً، وهذا التمني غالباً ما يكون معه عمل، وهو التشجيع الذي غالباً ما يحتوي على ما ذكرنا، وإن كان مجرد وجود هذه الروح كارثة في ذاتها، ثم إذا تقابل ناديان داخل البلد الواحدة كان الخلاف بين مشجعي الناديين.

فالكرة تفرق، والفرقة في حد ذاتها فساد كبير ولو التزم المشجعون بما يسمونه بالروح الرياضية، فكيف إذا لم يلتزموا كما في هذه الواقعة وغيرها؟!

والعجيب أن البعض يقرأ الموقف بالمقلوب، فيقول: فرحت الأمة العربية كلها بفوز مصر بكأس أفريقيا، ويعتبرون هذا وحدة، ولا يلتفتون إلى أن هذه الوحدة هي محض "سراب" يزول بمجرد زوال أثره.

ومع أول لقاء يجمع فريقين عربيين تكون أدنى درجات الفرقة؛ فيتعصب كل مشجع لبلاده ويرغب في فوزها سواء أكانت الأسوأ أم الأفضل.

وربما لم يكن الفاصل بين الموقفين سوى دقائق كما في هذا الحدث، والذي وجدت عوامل كثيرة منعت من أن تكون الفرقة من بدايته، إلا أن هذا التماسك العربي هو الآخر لم يصمد أمام الحزن البالغ من الجمهور لهزيمة فريقه.

وخلاصة القول أن الكرة اجتماعها سراب، بينما فرقتها خراب حقيقي كما شاهدنا في ذلك الموقف.

فعلى الدعاة إلى الله أن يحاربوا المرض بدلاً من محاولة خداع النفس، وخداع الأمة بالتبع، بزعم إمكانية استثماره.

وأما الصحيفة اليهودية فهي على دراية بخوف وهلع بني جلدتها من صواريخ المجاهدين، ومن صيحات: "الله أكبر" التي تنطلق في المظاهرات في كل أنحاء العالم الإسلامي، فأرادوا أن يؤكدوا لهم رسالة طالما رددوها، وهي أن العرب ما هم إلا ظاهرة صوتية، فلا عليكم منهم.

وإذا كان ذلك ينطبق بالفعل على جمهور الكرة(1)، وعلى معظم جمهور المظاهرات، فإنه لا ينطبق -بحمد الله -تعالى- على جمهور المساجد، ولذلك فكثيراً ما قلنا لإخواننا الذين يرون أن المظاهرات تنقل نبض الشارع للعالم الخارجي: إن المظاهرات وإن كانت تنقل صوتاً زاعقاً؛ إلا أن المراقب لا يصعب عليه أن يدرك أن هذه الظاهرة الصوتية تنتهي بمجرد انتهاء المظاهرة.

وأن الأنفع للأمة والأنكى في عدوها في آن واحد أن تتم التوعية في المساجد عبر الخطب والدروس والندوات، وفي كل الساحات التي يوجد فيها من لديه استعداد ليسمع ويتغير وينقل رسالة تخيف العدو بحق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ولإسرائيل سابق استفادة كبيرة من ذلك حيث انشغل القادة العسكريون إبان حرب67 عن مقارعة العدو في ميدان القتال إلى التنافس في ميدان الكرة، كلٌ ينصر ناديه المفضل؛ ولذلك لم يحسن الجيش الهجوم ولا الدفاع!!، ولا حتى الانسحاب!!، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


www.salafvoice.com
موقع صوت السلف