صيد الأوراد (9): هُدًى للمتقين (1)

منذ 2015-10-06

قال الله تعالى في وصف القرآن الكريم أنه: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، ويلفت نظرك أن في هذه الجملة جعل الاهتداء بهذا الكتاب للمتقين، في حين استقر في أخلاد المسلمين أنَّ هذا الكتاب جاء لهداية الناس أجمعين، والضالين هم مادة دعوته؛ فكيف وُصِفَ بأنه هدى للمتقين؟!

قال الله تعالى في وصف القرآن الكريم أنه: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، ويلفت نظرك أن في هذه الجملة جعلُ الاهتداء بهذا الكتاب للمتقين، في حين استقر في أخلاد المسلمين أنَّ هذا الكتاب جاء لهداية الناس أجمعين، والضالين هم مادة دعوته؛ فكيف وُصِفَ بأنه هدى للمتقين؟!

هذا السؤال يقرعك بمجرد أن تتدبر فيما تقرأ، فإذا ذهبْتَ إلى التفاسير؛ فما تكاد تجد أحدهم إلا تعرَّض له، وأجاب عنه بما ظهر له...

والواقع أن القرآن فعلا جاء ليهدي الناس جميعًا إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم، حيث يبَيِّنه لهم ويدعوهم إليه ويرغبهم فيه ويُحذِّرهم من مخالفة هدايته.. كما قال تعالى عن الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأحقاف:30]، وقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن: 1- 2].

فهذا هو فعل القرآن وهدفه ورسالته إلى الناس جميعًا.

أما قوله تعالى: {ذلك الكتاب هدى للمتقين}، فليس المقصود قصر هداية  القرآن على المتقين، وإنما بيانٌ أن الذي سيهتدي بهذا القرآن هم المتقون، فهم الذين يجدونها وينتفعون بها، وتنير طريقهم في الدنيا على صراط الله المستقيم فينجون من فتن الدنيا، وتنير طريقهم يوم القيامة على الصراط فيعبرون على متن جهنم سالمين إلى الجنة... فمن اتقى الله تعالى اهتدى إلى كل ما ينفعه في الدارين فأتاه وعمله، واهتدى إلى كل ما يضره في الدارين فتركه واجتنبه.. وهذا ما أوحت به آيات أخرى في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:9] وقوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:23]، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9]، ومنها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282]، وإذا علَّمك ما ينفعك وما يضرك فقد هداك، وإنما ذاك بالتقوى وبحسب قوتها.

قال جماعة من السلف هدى للمتقين: نور للمتقين. وصَدَقوا؛ فإن كتاب الله نورٌ، ونور المصباح يفيد العين الصحيحةَ البصيرةَ ورؤية الأشياء، أما العين العمياء فالنور عندها كالظلماء! كذلك القلوب الحية المستجيبة التقية فترى بنور كتاب الله، لذلك كان الكتاب هُدى لها، أما القلوب الميتة العمياء فلا ترى بهذا النور ولا تستفد منه.

أما الذين تبلغهم رسالةُ الله تعالى، وتُتلى عليهم كُتبه التي أنزلها على رسله ثم لا يفتحون لها قلوبهم، ويلقونها وراءهم؛ فهؤلاء لا يهتدون، وتكون عليهم زيادة عمى، كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:44]، وكما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:104]، وكما قال الله تعالى في أهل الكتاب: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الجمعة:5]. قال الطبري: (فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتاب الله نورًا إلا للمتقين، ولا رشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادا لغير المؤمنين، لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين. ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووقر في آذان المكذبين، وعمى لأبصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين. فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج (الطبري، 1/ 234)، وقال السمرقندي: (فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة، وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس، فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون، صار في الحقيقة حاصل البيان لهم.(1/ 22).

وإنَّك لترى كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام لا يهتدون سبيلا، رغم أنهم يُعلنون إسلامهم، ويقومون بشعائره أو ببعضها، لكنك تراهم في تيه من الضلال والظلام، وما ذاك إلا لنقص التقوى في القلوب، ولو اتَّقت القلوبُ لاهتدت بهذا القرآن الذي تقرأه في صلاتها وفي تراويحها، وتسمعه ليل نهار في قنوات وإذاعات، ما لم يتوفر لجيل الصحابة الفريد-رضي الله عنهم- ومع ذلك لم نتهدِ بهذا القرآن مثل ما اهتدوا، ونحن أكثر منهم قراءة وكتابة وسماعًا لهذا القرآن الذي يهدي المتقين.. وإلا فلِمَ غَيَّرَهم القرآن ولم يُغِيِّرْنا مثلهم؛ وهو هو القرآن المحفوظ؟!

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 1
  • 0
  • 9,205

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً