دروس من نهاية العام
أعمارنا وسنواتنا وأيامنا وليالينا هي رأس مالنا في هذه الحياة بل هي خلفة نتقلب فيها بين ليل ونهار وصباح ومساء {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: أعمارنا وسنواتنا وأيامنا وليالينا هي رأس مالنا في هذه الحياة بل هي خلفة نتقلب فيها بين ليل ونهار وصباح ومساء {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، قال ابن كثير في تفسيره: "جعل الله الليل والنهار يتعاقبان، توقيتًا لعبادة عباده له، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل، وقد جاء في الحديث الصحيح: « » (تفسير القرآن [6/130]).
أيها المسلمون: ألم تروا إلى هذه الشمس تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب كل يوم في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار فإن طلوع الشمس ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار إنما هي طلوع ثم زوال، ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدًا رويدًا، كما تنمو الأجساد حتى تتكامل فإذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ألم ترو إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعًا، والليالي تباعًا، فينصرم العام كلمح البصر، وإذا بالإنسان في آخره، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد وفجأة إذا بالموت قد حضر وقد كان الإنسان يتسلى في دنياه بالأماني وطول الأمل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد} [ق:19].
أيها المسلمون: أن كل يوم يمر وكل هلال شهر يهل وكل ساعة بل كل لحظة تمر على الإنسان فإنها تبعده عن الدنيا وتقربه من الآخرة قال الشاعر:
يسر المرء ما ذهب الليالي *** وإن ذهابهن له ذهابا
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخسران في العمل
أن العقلاء والحكماء من الناس ليتبصرون في مضي الدقائق والساعات والليالي والأيام ويرون أنها مراحل يقطعونها إلى الآخرة فطوبى لعبد اغتنم حياته فيما يقربه من مولاه طوبى لعبد شغل الليل والنهار فيما يرفعه في الجنة درجات ويجنبه المعاصي والسيئات ويقيه من حر النار والدركات طوبى لعبد اتعظ في هذه الأحوال طوبى لعبد استدل بتقلب الليل والنهار على ما في ذلك من الحكمة البالغة لأولي الأبصار قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ . هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس:3-6].
أيها المسلمون: إننا نودع عامًا ماضيًا شهيدًا علينا بما أودعنا فيه من الحسنات والسيئات وبما عملنا فيه من الباقيات الصالحات وبما ارتكبنا فيه من المعاصي والمخالفات نودع عامًا مضى من أعمارنا سوف يسألنا الله عنه ونستقبل عامًا جديدًا لا ندري كم لنا فيه من الليالي والأيام؟ نستقبل عامًا جديدًا يقربنا من الآخرة ويبعدنا عن الدنيا فيا ليت شعري ما الذي أودعناه في العام الماضي ؟ لقد أقوام منا سفرا للخارج ومعاقرة للخنا والزنا وأقوام منا أودعوا خطايا وسيئات وأقوام منا أودعوا تركًا للصلوات وتضييعًا للجمع والجماعات وتفريطًا في الواجبات وسهرًا في المقاهي والمنتديات وسهرًا على أفلام الدشوش والقنوات وأقوام منا أودعوا شربًا للدخان وتعاطيًا للخمور والمسكرات والمخدرات وأقوام منا أودعوا أكلًا للربا وأخذًا للرشوة وأكلًا لأموال الناس بالباطل وأقوام منا أودعوا إنتاجًا في اللهو وإنتاجًا في الغفلة وتعاونًا على الإثم والعدوان إنَّ أقوامًا أودعوا مثل هذه الأعمال في العام الذي مضى لقوم خابوا وخسروا وإنَّ أقوامًا آخرين بارك الله في أعمارهم فأودعوا حفاظًا على الصلوات وتركًا للمعاصي والمنكرات أودعوا صيامًا بالنهار وتلاوة بالأسحار واستغفارًا وذكرًا في الصباح والمساء واجتهادًا في الطاعة وبعدًا عن المعصية وعمارة لبيوت الله وإنَّ أقوامًا هذا صنيعهم فهم قوم فازوا وربحوا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي الفريقين أحق بالطمع في حسن العاقبة والخاتمة؟.
أيها المسلمون: إن انصرام العام وانقضاء أيامه ولياليه لنستوحي منه دروسًا بالغة الأهمية ينبغي أن تكون نصب أعيننا حتى نفوز ونربح، أولها: أن الدنيا فانية وما هي إلا معبر للآخرة ومزرعة لها لمن وفقه الله تعالى وأن عمر الإنسان فيها محدود وقليل فليقصر الأمل وليستحضر دومًا حلول الأجل، لقد بين لنا ربنا ورسوله قدر الدنيا وقيمتها وحقيقتها فهي متاع قليل {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، لقد ضرب لنا ربنا أمثلة بليغة تزهد فيها وتحذر منها قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: « » قالوا: "نعم"، قال: « » (صحيح الترمذي [4/560]).
عن عبد اللَّهِ قال: اضْطَجَعَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ، فلما اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ، فقلت: "يا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ آذَنْتَنَا حتى نَبْسُطَ لك على الْحَصِيرِ شَيْئاً؟"، فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » (المسند[1/391])،
ولقد تخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري[4/1473]).
وتوعد الله أولئك الذين ركنوا إلى الدنيا ورضوا بها فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7-8]، ولما كانت الدنيا كذلك نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وصرفوا قلوبهم عنها وهجروها ولم يألفوها بل عدوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها مرغوب، فقد عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح كنوزها فردها ففاضت على أصحابه فلم يبيعوا حظهم من الآخرة فعلموا أنها دار ممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار حبور وسرور عَنِ الْحَسَنِ قال: « » (المسند [5/438]).
أيها المسلمون: هذه الدنيا، وهذه حقيقتها، فلماذا نتقاطع؟ ولماذا نتدابر من أجلها؟ ولماذا يعادي الرجل أخاه ويهجر أمه وأباه من أجلها، إن الواجب على من عرف حقيقة الدنيا أن لا يطيل فيها الأمل، وأن يكون حاله فيها كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنه فقال: « » (صحيح ابن حبان[698])، وكان بن عُمَرَ يقول: "إذا أَمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وإذا أَصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ من صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"، وعليه أن يجعلها عونًا له على طاعة الله وأن يتزود منها للآخرة وألا يخدعه بريقها وزخرفها.
وثانيها: أن الأيام والليالي أوقات غالية وجواهر نفيسة فإما أن يغتنمها ويعمل عيها، وإلا فهي تعمل فيه خاصة إذا علم أن عمره فيها قصير، فعن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح ابن ماجه[2/1415])، لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام ساعات العمر قبل انصرامها فقال لرجل وهو يعظه: « ».
إنَّ الوقت غال ونفيس وهو سريع الانقضاء لا ينتظر الغافلين حتى يستيقظوا، بل كل نفس يتنفسه الإنسان جزء من عمره وكل تغيب شمسه لا يعود للدنيا ثانية، والذين يدركون سرعة الزمن هم الذين يوفقون لاغتنام ساعاته بما ينفع ويفيد قال حكيم "ومن أمضى يومه في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه" إن مضي كل ساعة وكل يوم وكل شهر إنما هو نقص من عمر الإنسان وإبعاد له عن الدنيا وتقريب له من الآخرة وقال الحسن: "إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك" وقال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته".
قال ابن القيم: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه ومدة سفره هي عمره الذي كتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل سفره فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر".
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوي وهن مراحل ولم أر مثل الموت حقًا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شاعل ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول إذا قَعَدَ: "إِنَّكُمْ في مَمَرِّ اللَّيْلِ والنهار في آجَالٍ مَنْقُوصَةٍ وَأَعْمَالٍ مَحْفُوظَةٍ وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً فَمَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً وَمَنْ يَزْرَعْ شَرًّا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ نَدَامَةً وَلِكُلِّ زَارِعٍ لا يَسْبِقُ بَطِيءٌ بِحَظِّهِ وَلا يُدْرِكُ حَرِيصٌ ما لم يُقَدَّرْ له فَمَنْ أُعْطِيَ خَيْرًا فَاللَّهُ أَعْطَاهُ وَمَنْ وُقِيَ شَرًّا فَاللَّهُ وَقَاهُ الْمُتَّقُونَ سَادَةٌ وَالْفُقَهَاءُ قَادَةٌ وَمُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ".
فعلينا أيها المسلمون أن نغتنم الأيام والليالي فيما يقربنا إلى الله تعالى، وقف أبو ذر رضي الله عنه عند الكعبة فقال: "يا أيها الناس هلم إلى أخ ناصح شفيق" فاكتنفه الناس ثم قال: "أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرًا أليس كان يأخذ من الزاد ما يصلح لسفره سفر الآخرة، فتزودوا ما يصلحكم"، فقالوا: "وما الذي يصلحنا؟" قال: "حجوا حجة لعظائم الأمور وصوموا يومًا شديدًا حره للنشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لظلمة القبور وكلمة خير تقولها أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم" فعلى المسلم أن يعمر أوقاته بطاعة الله، ولا يكن حاله كحال أهل الغفلة الذين نعى الله إليهم تفريطهم في أيام عمرهم فقال: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيأتي الجواب {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، لقد أعطيناكم فرصة كافية لأن تتذكروا وتعودا إلى ربكم فهذا جزاؤكم لقد فات الأوان ولنعلم جميعًا أن طول العمر حجة عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (صحيح البخاري [5/2360])، أي أزال عذره ولم يبق له موضع للاعتذار لأنه أمهله طول هذه المدة وسيسأل عنها بين يدي الله عن بن مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (الترمذي[4/612]).
وليبادر بالأعمال الصالحة قبل حلول الصوارف عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: « » (الترمذي[4/552]).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: وثالثها: أن لكل شيء نهاية وهكذا عمر الإنسان فنهاية العام مذكرة بالموت وكفى به واعظًا فهل تذكرناه؟ وهل فكرنا فيه؟ وهل هيئنا له أنفسنا واستعددنا للقائه؟ أم أننا لا نذكره وإن ذكرناه فذكر عابر لا تستشعره القلوب وذكر لا يترجم إلى عمل يقربنا إلى الله أيها المسلمون: إن الموت أكبر واعظ ولكن القلوب القاسية لا تتعظ، وهو مصير كل مخلوق {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وله ساعة لا يتقدم عنها ولا يتأخر {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، ومهما طال عمر الإنسان وتأخر أجله إلا إن الموت سيفجؤه، وسينزل بساحته؛ ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره والاستعداد له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « » (النسائي[4/4]).
إن مصيبة الموت عظيمة ولكن غفلة الناس عنها أعظم، كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح بين عيني كل حي علم الموت يلوح سيصير المرء يومًا جسدًا ما فيه روح نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح. إنَّ الموت أجل مبهم لا يعلم العبد متى يأتيه ولربما جاءه على حين غفلة من غير سبق نذير فلا يغتر شاب بشبابه ويظن أنه لا يموت إلا الشيوخ فكم مات من شباب وكم مات من شيوخ كانوا أطول منه آمالًا في الحياة وأشد حرصًا منه على الدنيا فكم من بان لم يسكن؟ وكم من زارع لم يحصد؟ وكم من خاطب لم يتزوج ؟ فليكن الموت منَّا على البال ولنعلم أنَّ كأسه مرة وأنَّ سكراته شديدة فقد عانى منه خير الخلق صلى الله عليه وسلم عن أنس قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أبتاه فقال: « »، وكان يقول في مرض موته: « » (صحيح البخاري[4/1616])، قال تعالى: {كلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ . وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة26:30]، {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ . وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ . وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ . فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87].
فلننتبه لليوم الذي يأتينا فيه على فراش الموت والواحد منا يجود بنفسه يخاطبه أهله وأحبابه فلا يجيب لأنه مشغول عنهم بما يعاني من شدة الموت وسكراته تدور عيناه ينظر إليهم نظر المودع الآسف على ما فرط في جنب الله بينما أهله يبحثون عن الطبيب يداويه وأنى للطبيب أن يدفع الموت عن نفسه حتى يدفعه عنه فكيف بك أيها المسلم وقد حضر الأجل وكنت على فراش الموت وأهلك وأقرباؤك ينظرون إليك نظر المشفقين وقد تذكرت ما مضى من الأيام والليالي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، وجاءك الموت وأنت على تلك الحال وأنت لا تدري ما الذي تفعله أما العقل فقد أصابته وشوشه، وأما القلب فقد أصابه الاضطراب والحشرجة والقدمان قد بردتا وبدأ ملك الموت بنزع روحك نزعًا هو أشد من طرق المطاريق ونشر المناشير فإذا بالدموع تتساقط وإذا بالأصوات ترتفع إنا لله وإنا إليه راجعون لقد مات فلان بن فلان فلنعد للأمر عدته.
ولنتأهب للموت وشدته: تأهب للذي لابد منه فإنَّ الموت ميقات العباد أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد فلنتزود لذلك وخير زاد هو التقوى كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، قبل أن يحل بنا الموت ونتمنى حينها الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحًا، ولكن هيهات.
أيها المسلمون: هذا بعض ما نستوحيه من نهاية العام وأما كيف نستقبل العام الجديد فأقول مضى العام بما أودعنا فيه وسنستقبل عامًا جديدا فلنعلم أن أعمارنا قد نقصت وأنَّ آجالنا قد قربت وعلينا أولًا: أن نحاسب أنفسنا وننظر في ديواننا فإن أحسنا فيه فلنحمد الله على ذلك ولنسأله المزيد من فضله والثبات على دينه حتى نلقاه وإن كنا أسأنا وأذنبنا وأخطأنا وهو الواقع فلنتب إلى الله توبة صادقة من ذنب عملناه ومن كل سوء فعلناه عله يختم بخير فإن العبرة بالخواتيم.
وعلينا ثانيًا: أن نعقد العزم على تجديد العهد مع الله أن نستكثر من الطاعات وأن لا نفوت فرصة من فرص الخير إلا حرصنا عليها وسابقنا في تحصيلها وأن نبتعد عن الذنوب والآثام والخطايا والأوزار وإن حصلت من أحدنا زلة أو هفوة بادرنا إلى الاستغفار منها والتوبة إلى الله منها، ورحمة الله واسعة طالما أن العبد كلما أذنب تاب وآب.
ثالثًا: علينا أن نكثر من ذكر الموت وما بعده من منازل الآخرة فإن ذلك أدعى للعمل والاستكثار من الصالحات فإن الإنسان لا يدري كم له في العام الجديد هل سيكمله؟ أم أنه لم يبق له فيه إلا شهور وأيام.
رابعًا: علينا أن نحرص على نافلة الصيام في هذا الشهر المحرم فصومه أفضل الصوم بعد صيام رمضان عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[1163])، وخاصة اليوم العاشر الذي نجى الله فيه موسى وقومه من شر فرعون وقومه عن بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هذا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وهو يَوْمٌ نَجَّى الله فيه مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فقال: « » (صحيح البخاري[3397])، فصومه يكفر سنة ماضية
كما ورد عند مسلم رحمه الله وَسُئِلَ بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فقال: ما عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ على الْأَيَّامِ إلا هذا الْيَوْمَ ولا شَهْرًا إلا هذا الشَّهْرَ يَعْنِي رَمَضَانَ، ويستحب أن يصام معه التاسع فعن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[2/798]).
منديل بن محمد الفقيه.
- التصنيف:
- المصدر: