البُعد الديني في التدخل العسكري الروسي

منذ 2015-10-26

الجانب الذي نسعى لإضاءة النور عليه في هذا المقال هو الجانب الديني؛ فدعم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا لقرار موسكو التدخل في سوريا ضد (تنظيم داعش) يعتبر أحد أهم الأسباب في هذا التدخل.

لأي احتلال أو عدوان أسبابه ودوافعه -سواء كانت صحيحة أم خاطئة- فهذه تعتبر قاعدة لا يختلف فيها اثنان. التدخل العسكري الروسي الأخير في سوريا لا يخرج عن هذه القاعدة؛ فهناك أسباب جعلت الرئيس (فلاديمير بوتين) يخوض هذه التجربة الخطيرة ويجرب حظه علَّه يعيد القليل من الإرث الروسي الضائع، المصالح الإقتصادية والاستراتيجية يمكن وضعها على رأس الأسباب؛ ولكن هناك غيرها كثير، المهم أنها تؤدي كلها إلى نتيجة حتمية: وهي ضرورة القضاء على المعارضة بكل أنواعها وأشكالها؛ بل وحتى الحاضنة الشعبية من المدنيين. أما قضية الحرب المُقدسة للقضاء على (تنظيم داعش) فكانت مسرحية روسية مكشوفة؛ يُصوَّر فيها التنظيم كعادته يلعب دور الفزّاعة.

الجانب الذي نسعى لإضاءة النور عليه في هذا المقال هو الجانب الديني، الذي يعتبر هو الأخر أحد أهم الأسباب في هذا التدخل؛ فدعم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا لقرار موسكو التدخل في سوريا ضد (تنظيم داعش) -ووصفت ذلك بأنه (معركة مقدسة)- جاء كالقطرة التي أفاضت الكأس، ونقلت الأزمة إلى مرحلة جديدة من التعقيد. فرغم أن دعم الكنيسة لم يأتي في بيان رسمي، وجاء في تصريح إذاعي لرئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة (فسيفولود تشابلن) الذي قال: "إن القتال ضد الإرهاب هو معركة مقدسة اليوم، وربما تكون بلادنا هي القوة الأنشط في العالم التي تقاتله"؛ إلا أنه أثار الكثير من الانتقادات لدى المسلمين؛ وهذا ما ظهر بشكل جلي في مواقع التواصل الإجتماعي من تصريحات لاذعة لموقف الكنيسة.

الكنيسة وبتوجهها هذا قامت باستفزاز المسلمين بشكل مباشر على مستوى العالم، وعملت على تجييشهم بمساهمة كبيرة من الإعلام الغربي؛ حيث تحولت الأحداث الدائرة في سوريا إلى حرب دينية بامتياز، وأصبحت البلاد مثل المغناطيس؛ تجذب إليها كل من كان في السابق متردداً للقتال مع مختلف فصائل المعارضة المسلحة. وبحكم أن الكنيسة الشرقيّة في سوريا أقرب إلى الحكومة في دمشق؛ فقد ظهرت تصريحات لعدة مسؤولين مسيحيين، محاولين استرجاع التوازن بتبرئهم من الكنيسة وتوجهاتها. ومن أبرز هذه التصريحات كانت لمدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في (جامعة البلمند) بلبنان (الأب جورج مسّوح حازم) الذي قال: "إنه لا حرب مقدسة في المسيحية.. كل حرب نرفضها، أكانت باسم إله اليهود، أم إله المسيحيين، أم إله المسلمين؛ لذلك، فإن موقف الكنيسة الروسية لا يعنينا، مسيحيو الشرق يؤمنون بأن لا حرب مقدسة، ولا جهاداً مقدساً، ولا حقاً إلهياً في الحرب".
في المقابل وقَّع 52 من علماء السعودية الكبار على بيان يطالبون فيه بالنفير العام من أجل مواجهة ما سموه الاحتلال الروسي لسوريا؛ مطالبين بدعم الجماعات المسلحة المقاتلة على الأرض بكل ما يحتاجونه لمواجهة هذا العدوان، بالإضافة إلى ذلك فقد حذّر رجل الدين السعودي في سوريا المرتبط بجبهة النصرة (عبد الله المحسيني) حذر صراحة أن سوريا ستكون مقبرة وأفغانستان أخرى لموسكو.

في نفس السياق، قال رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ (يوسف القرضاوي) عبر تغريدة له على التويتر، قال: "إذا دافعنا عن أوطاننا وبيوتنا وأعراضنا باسم الإسلام الذي نؤمن به نُتهم بالإرهاب؛ بينما روسيا تقصف سوريا والمعارضة باسم الحرب المقدسة!" ويسأل في تغريدة أخرى: "من الذي بارك لروسيا قصف سوريا؟ هل باركها الله أم المسيح أم نصوص الإنجيل؟ هذه حرب ملعونة مذمومة باسم الأديان والقوانين والأخلاق والمواثيق".

بعدما كانت الحرب الدائرة في سوريا توصف في كثير من الأحيان بالطائفية أصبحت الآن دينية، وهذا بسبب طريقة التدخل العسكري الروسي ولجوئه إلى الكنيسة لتبرير هذه الخطوة لمواطنيه داخلياً وذلك من أجل كسب ودّهم وتعاطفهم.

هذه المواجهة التاريخية بين الرياض وموسكو تُعَد معركة أخرى في الصراع الممتد منذ زمن الاتحاد السوفياتي والخسائر المادية والبشرية الفادحة التي تلقاها في أفغانستان. تعود بنا الذاكرة إلى تلك الحقبة التاريخية حين ألقت السعودية بكل ثقلها من خلال الدعم اللوجستي والمادي للجماعات المقاتلة ضد الاحتلال الشيوعي، فكانت الأراضي الأفغانية بحق مقبرة للجيش الأحمر.

من أفغانستان إلى سوريا، روسيا تختلف عن الاتحاد السوفياتي من حيث الخلفية العقائدية؛ فالجيش الأحمر الذي كان بالأمس يدافع عن الإلحاد، ها هو اليوم يدخل الأجواء السورية بمباركة دينية من الكنيسة الأرثوذوكسية المسيحية، بعدما شهدت هذه الأخيرة نهضة روحية كبيرة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 [خسر السوفيات في الحرب الأفغانية التي استمرت عشر سنوات (1979-1989) حوالي 14500 جندي وآلاف الجرحى]، لتصبح الكنيسة الأرثوذكسية مؤسسة روحية نافذة في البلاد، خاصة في عهد (فلاديمير بوتين) الذي أعادها إلى الواجهة في العملية السياسية.

وللغوص أكثر في هذا الملف الشائك يجب أن نضع العلاقة الروسية السعودية تحت المجهر، ونسلط الضوء على الجمعيات الدينية المنتشرة بشكل كبير في روسيا والتي تُموِّلها الرياض. فكثيرًا ما كنا نسمع بأن موسكو حينما تدافع عن دمشق إنما تدافع في الأصل عن نفسها؛ هذه المقولة رددها في السنوات الأخيرة مجموعة لا بأس بها من الكتاب والمفكرين والمحللين السياسيين، والمعنى من ذلك: هو أن روسيا كانت منذ البداية تخوض حرباً دينية خفية بالوكالة مع السعودية ولكن على الأراضي السورية، اليوم هذه الحرب أصبحت واضحة للعيان بعدما دق مسؤولون إيرانيون ناقوس الخطر خلال زياراتهم الأخيرة إلى روسيا، بعدما فشلت طهران – الغريم التاريخي للرياض – في تحقيق أي انتصارات في مواجهة الجماعات المسلحة المدعومة خليجياً.

المفاجئ في الأمر هو مواقف مصر والإمارات والأردن (حلفاء السعودية الأساسيين) التي وجدت نفسها في حلف واحد مع الاحتلال الصهيوني وإيران ولم يُشكِّل هذا أي حرج بالنسبة لهم! فبالنسبة لهذه الدول العربية فلا بأس من مباركة التدخل الروسي من أجل القضاء على كل ما هو إسلامي -وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي تملك حضوراً كبيراً في سوريا- وهذا ما اعتبره محللون ضربة قوية للسعودية؛ بحكم أن هذه الدول شاركت من قبل في التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، والآن في التحالف الذي تقوده موسكو؛ رغم أن التحالفان لا يتفقان على كثير من الأمور الاستراتيجية -أهمها مصير الرئيس السوري بشار الأسد- بالإضافة إلى دعم المعارضة المسلحة من دون (تنظيم داعش)، ضِفْ إلى ذلك؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من السلبيات الكثيرة فهي تضع شروطاً مُعقدة لتنفيذ أي قصف جوي سواء في سوريا أو في العراق؛ أما روسيا -فإلى حد الآن- أثبتت بالدليل القاطع بأنها لا تملك خطوطاً حمراء عند تنفيذ أي طلعة جوية أو ضربة بحرية، والجميع –بما في ذلك المدنيون– معرضون للقصف والإبادة.

في الأخير يمكن القول بأن الروس والأمريكان لا يختلفون إلا على مصالحهم الشخصية، في الوقت نفسه هم يتناوبون على قصفنا وإبادة شعوبنا؛ سواء بتدخلهم المباشر أو بواسطة إرسال أسلحتهم المُدمِّرة، ويحدث هذا كله بمباركة صهيونية علنية. ويبقى الاحتلال الإسرائيلي المستفيد الوحيد من تدمير البنية التحتية للدول العربية -خاصة المجاورة للأراضي الفلسطينية المحتلة- في حين ينقسم العرب بين من ينضم إلى هذا الحِلْف أو الحِلْف المضاد؛ رغم أن كل الأحلاف تؤدي إلى نتيجة حتمية واحدة وهي: تدمير بلداننا العربية فوق رؤوسنا.

------------------------

بقلم: كمال حميدي.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • -2
  • 5,547

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً