يوسف من البئر إلى الملك - [05] يوسف في بيت العزيز - الجزء الثالث
وتكون محاكمة سريعة بمدَّعى وهو امرأة العزيز، ومدَّعَى عليه وهو يوسف عليه السلام، وقاضٍ وهو العزيز وشاهد من أهلها، فدعوى المدعى: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف:25]، تحفيزًا للقاضي على مجازاة المدعَى عليه، بما أنه أساء إليه هو، لأن إساءته إلى أهله إساءة له، وخصوصًا في هذا النوع من الإساءة.
الصدَّيق من كيد إلى كيد
وتكون محاكمة سريعة بمدَّعى وهو امرأة العزيز، ومدَّعَى عليه وهو يوسف عليه السلام، وقاضٍ وهو العزيز وشاهد من أهلها، فدعوى المدعى: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف:25]، تحفيزًا للقاضي على مجازاة المدعَى عليه، بما أنه أساء إليه هو، لأن إساءته إلى أهله إساءة له، وخصوصًا في هذا النوع من الإساءة.
واستجازت الكذب البين في اتهامها ليوسف عليه السلام في حضوره، فهو كذب على نفسها، وعلى يوسف وعلى زوجها، ويا عجبًا للخائن يتهم الأمين وهو يعلم، والناس تعلم، وليس ذلك فحسب، ولكنها نصبت نفسها قاضية: {إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25]، ودفاع المدَّعَى عليه: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف:26]، وهذه هي الشجاعة بل أفضل الشجاعة، وهي الصراحة في الحق لا يمنعه منها خوف سيده ولا مخدومته.
وتأتي شهادة الشاهد الذي أتى على قدر، فلم يُستدع ولم يُستشهد، وسمع قوله كل من المدَّعِي والمدَّعَى عليه، تأتي شهادته تبرئة ليوسف، وإدانة لامرأة العزيز: {يوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29]، ويرجع يوسف إلى بيت العزيز، الذي حاول الهرب منه بريئًا طاهرًا عفيفًا أمينًا، ورد الله كيد امرأة العزيز في نحرها، فارتدت خاطئة مذنبة تجر أذيال الانكسار والخزي والهزيمة والعار أمام فتاها وسيدها. وتحقق بذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
ألا يكفي ما كان من تعرض يوسف لهذه الفتنة وخصوصًا أنه خرج منها منتصرًا ومرفوع الرأس؟! أم لا بد من جولة أخرى مع هذا الابتلاء، في شكل أخر من العلاقة المتوترة بين الخادم ومخدومته، التى لاتزال مصرة على تحقيق مرادها من خادمها وفتاها! وكيف تعايش يوسف مع هذا الجو وهذه الظروف الصعبة؟ ألا يخشى يوسف عليه السلام أن تعاود المرأة مراودتها له عن نفسه؟ ألا يخشى أن تهيم به، وتغلق الأبواب مره أخرى؟ وهل من محاولة للهروب مرة أخرى لعله يستطيع ما لم يحققه من قبل؟ ثم ألا يكف هذه المرأة عما كان منها بعد أن افتضح أمرها أمام زوجها وقريبها؟
ويشيع الخبر بين النسوة في المدينة يتحدثن به، فتتسع دائرة الفضيحة، ويشيع خبر الأمانة والعفة والثبات في مواجهة الفتنة، وهكذا يقيم الله الحجة في مواقف متقابلة من الثبات والإصرار من كلا الجانبين، وتتجسد المعاني والقيم الهابطة في مواقف سامية عالية، بل ويرى الناس الهبوط والخسة والضعة في جانب الخادم والمملوك والفتى، فالنوع الأول لا يستره إلا المظهر الخادع، كما يقول الشاعر:
ثوب الرياء يشف عما تحته *** فإذا ارتديت به فإنك عار
وأما النوع الثاني فمعدن ثمين وجوهر غالٍ وإن خلا من الزينة والزخرف والخداع، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صحيح مسلم[4651])، ويقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:10].
» (وتستدعي امرأة العزيز النسوة وتُدخل عليهم يوسف عليه السلام، ليفاجأ بنسوة متكآت كأنهن صديقات لها وأمامهن ما يستعملن السكين في قطعه، وإذا بنا أمام جولة من الكيد الجماعي بعد أن رد الله عنه كيد امرأة العزيز في الجولة الأولى.
العلماء كثيرون والعظماء قليلون
وكما فوجئ يوسف عليه السلام فوجئت النسوة بمن أكبرنه حين رأينه، أو حين فوجئن به فاعتدلن في جلستهن مثلًا أو أوسعن له في المجلس أو أجلسنه أو رحبن به ترحيبًا زائدًا، يعبر عن إكبارهن له. ألا ترى كيف يعبر الناس عن إكبارهم لكبرائهم! وإذا كان إكبار الناس معروفًا غير منكور، فهل يكون إكبار النسوة وهن من الطبقات الراقية، ليوسف عليه السلام وهو الفتى والخادم والمملوك هل يكون ذلك متصورًا أو ممكنًا؟
يقول الشيخ طاهر بن عاشور: "أكبرنه: أعظمنه أي أعظمن جماله وشمائله أي أعددنه كبيرًا، وأُطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيهًا لوفرة الصفات بِعِظَمِ الذات"
يقول الأديب مصطفى المنفلوطي في نظراته: "العظمة أمر وراء العلم والشعر، والإمارة والوزارة والثروة والجاه فالعلماء والشعراء والنبلاء كثيرون والعظماء منهم قليلون".
فإذا وهب إنسان هذه القوة الكامنة ظهرت على أقواله وأفعاله وتصرفاته، فعظُم عند الناس وكَبُر.
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:31]
حيث استولى على أبصارهن إكباره وجماله، فذهلن حقيقته البشرية، وتصورنه ملكًا كريمًا {مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]، فوجدتها فرصة سانحة، أن تنتزع منهن إعذارًا لها، وكأنها تقول لهن: إذا كان منكن الذي بمجرد رؤيتكن له، فما بالكن بمن تعاشره وتخالطه وتخلو به ليل نهار: { فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف:32]، وكان يكفيها ذلك التماسًا لإعذارها عندهن، فما بالها تؤكد لهن ما قلنه عنها:{امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف:30] وتبطل ادعاءها الكاذب: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:30]، فتقول هي بلسانها: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} [يوسف:32] وتثبت صدقه حين قال، {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف:26]، ثم تعلن تصميمها على مراودته، وإلا فسيكون من المسجونين الصاغرين تهديدًا له وضغطًا عليه لعله يراجع نفسه ويستجيب، وقد قالت ذلك بمسمع منه ويشهد بذلك السياق حيث ذكر أن امرأة العزيز أمرته أن يخرج عليهن ولم يرد أنها صرفته أو أنه استأذن.
وماذا يملك المظلوم المستضعف أمام ظالمه المتغطرس الذي يملك عليه أمره ويريده على فعل الشر والسوء والقبح؟
أيستجيب لغطرسته وظلمه، ويستسلم لشره وسوئه وقبحه تجنبًا لأذاه واتقاء لتهديده ووعيده؟ ويعينه بذلك على أن يستمرئ الظلم، وتتفتح شهيته ما دام يجد استسلامًا وخضوعًا واستكانة لظلمة وظلامه، أم يقف للظلم موقف الرافض المدافع المتمرد الذى لا يرضى بالظلم ولا بالظالمين، وليصبه في سبيل ذلك ما يصيبه، فحسبه أنه وقف موقف المدافعة لا الاستسلام، وموقف الممانعة لا القبول والرضا والاستحذاء؟ فهو بذلك ييئسه ويخذله، وماذا على المحق إلا أن ينتصر لحقه، ويبطل باطل عدوه، وهو في كل هذا ذاكر لربه موصول به معتصم به مستعين به.
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]
وبهذا أعلنت تصميمها على مراودته وإجباره على تنفيذ أمرها، وكم يستغرق ذلك حتى تصل إلى اليأس من المحاولة، فتنفذ تهديدها بالسجن وضرب الصغار على يوسف عليه السلام؟
د. محمد عبدالمعطي الجزار.
- التصنيف:
- المصدر: