عمل القلب - الفريضة الغائبة - [11] أعمال القلوب ومقاصد الشريعة
غاية الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وذلك بالطاعة المطلقة لله تعالى، مع كمال الحب والذل والخضوع له.
غاية الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وذلك بالطاعة المطلقة لله تعالى، مع كمال الحب والذل والخضوع له.
وقد بين الله جل وعلا أن من مقاصد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس، كما في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] ومعنى يزكيهم: (أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان) قاله ابن عباس(الجامع لأحكام القرآن).
وأصل التزكية بمعنى التطهير، وقد جاء في السنة ما يبين معنى التزكية، وأن طعم الإيمان لا يوجد إلا بها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: « » (السلسلة الصحيحة[1046]).
وهذا المعنى وهو عبادة الله على الشهود والمراقبة من أعمال القلوب، والله عز وجل يدعو عباده إلى ما فيه صلاح قلوبهم، وكذلك دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، وقوله: {يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلوب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام. (تيسير الكريم الرحمن).
ويقرر ابن تيمية أن القلب كلما ازداد حبًا لله، ازداد عبودية له، وكلما ازداد له عبودية، ازداد له حبًا وحرية عما سواه.
فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، والعبادة لا تحصل إلا بإعانة الله له، فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:3].
فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته لله، بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئًا لذاته إلا الله، فمتى لم يحصل له هذا: لم يكن حقق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك، ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعينًا بالله متوكلاً عليه مفتقرًا إليه في حصوله لم يحصل له (مجموع الفتاوى) .
وكثير ممن تكلموا عن مقاصد الشريعة لم يعطوا هذا الجانب حقه، بل ربما أغفله بعضهم، عند كلامهم على مقاصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد.
يقول ابن تيمية في سياق كلام له حول مراتب المصالح والمفاسد: "وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله، من مصالح القلوب ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة، كما قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم:30]) .
فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق، بمبلغهم من العلم... وقوم من الخائضين في (أصول الفقه) وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع بالأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم.
ورأوا أن المصلحة نوعان: أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله، وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه: حفظًا للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح" (مجموع الفتاوى).
هذا وقد مثل شيخ الإسلام لما ذكره آنفًا بتحريم الميسر فإن ذلك ليس لكونه معاملة فاسدة، أو لمجرد كونه أكلاً للمال بالباطل؛ بل لأنه بنص القرآن يصد القلب عن ذكر الله وعن الصلاة (انظر: مجموع الفتاوى).
ثم قال: "فتبين أن الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل وهي ما فيه من فساد القلب والعقل وفساد ذات البين، وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي، فينهى عن أكل المال بالباطل ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهي عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال، فإذا اجتمعا عظم التحريم" (انظر: مجموع الفتاوى).
وبناء على ذلك قرر تحريم الشطرنج بدون عوض، معللاً بأنها (إذا استكثر منها، تستر القلب وتصده عن ذلك أعظم من ستر الخمر) (انظر: مجموع الفتاوى).
- التصنيف:
- المصدر: