في الماء ولا يرتوي

منذ 2015-12-19

سألت السمكةُ الصغيرةُ السمكةَ الكبيرةَ: بما أنك كبيرة هل يمكن أن تدليني أين أجد البحر؟ فقالت لها: البحر هو المكان الذي أنت فيه الآن. فقالت الصغيرة: هذا ماء؛ ولكني أريد البحر ثم هزت رأسها وأعطت ظهرها للكبيرة وسارت نحو وجهتها..

كلنا يبحث عما يريد دون النظر إلى أن ما نريده فينا.. لو تأنينا.
نبحث عن الجمال؛ والجمال موجود في داخلنا.. لو تأملنا.
نبحث عن السكون والهدوء والراحة؛ والسكون والراحة بين أيدينا.. لو أننا  صمتنا.
نبحث عن الأمان؛ والأمان فينا؛ لو أننا آمنا.
نبحث عن المعرفة والكتب والمراجع، ونسافر للدورات والبرامج، ونجتاز الماجستير والدكتوراه للمعرفة؛ والمعرفة ساكنة فينا.. لو أننا فكّرنا.
نبحث عن السعادة؛ وما أقرب السعادة، وهي موجودة في قلوبنا، ونحن نبحث عنها في الأماكن القريبة والبعيدة.
نبحث عن الحب في كل مكان ونركض خلف هذا وذاك؛ لكن الحب بقليل من الشعور موجود فينا.. لو أننا شعرنا.
نبحث عن الله؛ والله معنا في كل صلاة... لو أننا صلينا.

كثير بحث الإنسان إنما هو مجرد وهم؛ لأن الإنسان بداخله كل ما يبحث عنه، وكل ما يريد أن يصل إليه، وما مثله إلا كمثل السمكة الصغيرة، التي تركض وتلهث خلف الزينة، لتجد البحر دون أن تعي حقيقة البحر ومكانه.

يبحث الانسان في المكان الخطأ عما لا يدرك كنهه وجوهره؛ كالذي افتقد متاعه في بئر مظلم فراح يلتمسه في فناء منير!
نبحث عن الله في أي مكان؛ إلا في المكان الذي نجد الله حقاً به وفيه وهو قلوبنا.
لم نجهد أنفسنا للبحث عن الله في المكان الذي افتقدناه فيه؛ لكننا نذهب إلى أماكن أخرى للبحث عنه.
نقطع الأميال والدهر في رحلاتنا وأسفارنا لنستمتع ونستريح؛ فهل حقاً المتعة في الرحلة والسفر، أم هي موجودة فينا؟ وهل استرحنا واستمتعنا؟

كم ركضنا لنجمع المال، ونحوذ السلطة، وندرك المناصب وواسع الشهرة، وحرصنا على السمعة، وعلى كل شيء نكنز به المال، الذي ما هو في حقيقته إلا وسيلة إلى ما خلفه من أمان نراه فيه، ونجهد في البحث عنه لنحياه، فما أن نحوذ المال حتى نشعر بالأمان من فزع الطارق على رأس كل شهر يطلب إيجار السكن، لكن حقيقة الشعور بالأمان ليست هكذا، ليست في المال الذي حازته أيدينا وإنما هو ذاك الشعور الذي وقر في أعماقنا، وغشيت سحائبه بشاشة قلوبنا.

نبحث عن الأشياء التي تحقق فرحنا خارج ذواتنا، نبحث عنه في الألعاب، نبحث عنه في الزينة وفي جمادات نحسبها جمالات؛ إلى متى سنظل نبحث عن فرحنا وسرورنا خارجنا؟

كلا؛ فرحنا وسرورنا لم يكن يوماً في الألعاب وغيرها؛ لأنه لم يكن يوماً خارجنا، من أجل ذلك فما أحوجنا إلى إعادة النظر في الأشياء التي نبحث عنها.
نحتاج التفكير دائما وباستمرار في السمكة. سل نفسك ماذا تريد؟ ماذا تحتاج؟ وسل نفسك إذا هُديت إلى الجواب -الذي ما أصعبه من جواب- أين تجد ما تريد وما تحتاج؟ هل هو في أعالي البحار فتركب من أجله الخطوب والأخطار، أم في بعيد البوادي والقفار فتحمل إليه الأسفار؟ أم هو أقرب إليك من جفن عينيك، وما عليك إلى أن تفتحها، فتجده بين يديك؟

يقضي الإنسان نصف حياته ركضاً يجمع المال؛ ويقضي النصف الآخر في إنفاقه على مداواة آثار ركضه!
الطريق المستقيم هو الطريق المختصر؛ وهو السبيل إلى غاية ما تحب وتسعى إليه، فإن التمسنا المراد في غيره من السبل؛ كنا كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

لذا؛ فكلما شعرنا بالجمال داخلنا فلن نكِدّ في التماسه في الزينة والأضواء.
يملك الإنسان النظر؛ لكنه لا يملك البصر، ومن يستطيع أن يرى لا يشقى، ومن يبصر يرى في الظلام كما يرى تحت وهج الشمس؛ وما استقبالك للمباني إلا رسائل من السماء بالمعاني.

يقول الحلّاج:

وأي الأرض تخلو منك حتى *** تعالوا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إليك جهراً *** وهم لا يبصرون من العماء

بقية كلمة:
ما أسلفت ذكره إنما هو ما فهمته، أو نقلته من لقاء مؤسس الطريق إلى الحكمة مع الإعلامية نوف سلطان، في حلقة عنوانها هو ذات عنوان المقال، دوري فيها: رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه؛ وحسبي في الأمر أن اختيار المرء قطعة من عقله.

حسن الخليفة عثمان

كاتب إسلامي

  • 3
  • 0
  • 2,108

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً