خطب مختارة - [61] آفة العين وطرق الوقاية والعلاج

منذ 2016-03-02

مع ثبوت العين وأثرها بإذن الله فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها. أما المنكرين للعين فهم ينكرون نصوص شرعية فيها، وأما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام ويحاصرهم القلق ويضعف عندهم اليقين ويختل ميزان التوكل عندهم.

الخطبة الأولى:

أما بعد: هناك آفات وعلل تصيب بعض الناس، وفي ديننا بيان لسبل الوقاية والعلاج. الآفة التي ستكون موطن حديثنا هذا اليوم عن آفة تستنـزل الفارس عن فرسه، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «تورد الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر» [صحيح الجامع: 4023]. إنها العين، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا» [صحيح مسلم: 2188].

وقد جاءت الإشارة إلى العين في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: {يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. وهكذا يفعل المؤمنون يتوكلون على الله ويأخذون بالأسباب.

وجاء في القرآن أيضا إخبار من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم عن حسد الكافرين له ومحاولة إنفاذه بأبصارهم: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51]. ومعنى : {لَيُزْلِقُونَكَ} أي: يحسدونك ويَعَينونك بأبصارهم. قال ابن كثير في تفسيره: "وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة ".

إخوة الإيمان، وينبغي أن يُعْلَم أن العين إنسيّة وجنية، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة: «بها نظرة، استرق لها» [صحيح مسلم: 2197]. والمعنى: بها عين أصابتها نظرة من الجن. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم  يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان، وحينما  نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك. أخرجه الترمذي وحسنه.

أيها الإخوة الكرام، ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها. أما المنكرين للعين فهم ينكرون نصوص شرعية فيها، وأما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام ويحاصرهم القلق ويضعف عندهم اليقين ويختل ميزان التوكل عندهم، فهم يعظمون البسيط، وينسبون كلّ إخفاق أو فشل إلى العين وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرَضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علّة، ذلكم لأنّ نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمّل لوم الآخرين.

وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفًا وسطًا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلًا وعقلًا، ولا تغالي فتنسب كل شيء إليها، تتقي العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعًا بعد وقوعها.

إخوة الإيمان، وإذا كان هذا كله يقال للمعين، فيقال للعائن: اتقِ الله، ولا تضرّ أحدًا من إخوانك المسلمين، وإيّاك والحسد فإنه أعظم منافذ العين، فكل عائن حاسد، وليس كلّ حاسد عائنًا، ولما كان الحاسد أعمّ من العائن كما في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، والعائن ربما فاتته نفسه أحيانًا فوقعت منه العين وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحًا، وربما أصاب أقرب الناس إليه وإن لم يقصد من والد أو ولد، ولذا يوصى المسلم عمومًا والعائن خصوصًا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها حين يقول: «إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق» [صحيح الجامع: 556].

على أن المسلم نفسه ينبغي أن يحتاط لنفسه بمحافظته على الأذكار والأوراد والرقى الشرعية فهي أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، ومن ذلك المعوذتين، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التي بسطها العلماء في كتب الأذكار.

قال ابن القيم: "ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطًا من حيطانه قال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله. بمعنى أن صاحب النعمة يقول على نعمته ما شاء الله لاقوة إلا بالله، ومما يقال في الرقية رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: «بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك» [صحيح مسلم: 2186]. ولقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية، وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: «ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة (أي: نحيفة)، قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم»  [صحيح مسلم: 2198] 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون، ومن وسائل السلامة من أذية الآخرين بالعين التبريك، وهو قولك: "اللهم بارك عليه" للشيء تراه أو يذكر لك فيعجبك، فإن العين قد تنطلق من المعجب كالحاسد؛ وربما وهم لا يشعرون، وربما لا يدرون أنها وقعت، فعن أبي إمامة ابن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي: سهل بن حنيف بالخرار ـ وهو من أودية المدينة ـ، فنـزع جبّة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، فأخبر رسول الله  صلى الله عليه وسلم بوعكه؛ فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: هل تتهمون له أحدا؟، قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله  صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه؛ فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت، اغتسل له، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته» [صحيح الجامع: 3908] .

عباد الله، وإذا كان التبريك سببًا واقيًا بإذن الله من وقوع العين فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يصب على المعين شفاء له بإذن الله كما سمعتم في قصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة رضي الله عنهما، وهو مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا استغسلتم فاغتسلوا» [صحيح مسلم: 2188]. ولذا فينبغي للمسلم أن لا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المعين، أو أحسّ هو من نفسه أنه عان أحدا من المسلمين.

أيها المسلمون، وثمة وقاية من العين بإذن الله يغفل عنها كثير من الناس، ألا وهي ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي في شرح السنة أن عثمان  رضي الله عنه رأى صبيًا مليحًا، فقال: "دسموا نونته كيلا تصيبه العين". ثم شرحه بقوله: "ومعنى (دسموا) أي: سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير".

إخوة الإيمان، ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام، واستغفروا ربّكم واشكروه، وتحصنوا بالأذكار، ولا تبالغوا في العين ولا تغفلوا عنها، وإذا رأى أحدكم نعمة لدى أخيه فليدعو له بالبركة. 

عصمني الله وإياكم من الذنوب والآثام، وعافانا والمسلمين من كيد الفجار وحسد الحساد.

  • 18
  • 4
  • 34,621
المقال السابق
[60] آفة العصر (المسكرات والمخدرات)
المقال التالي
[62] أهمية الإخلاص

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً