خطب مختارة - [74] الحث على حفظ اللسان

منذ 2016-03-07

إن حفظَ المرء للسانه وقلةَ كلامه عنوانُ أدبه؛ وزكاءُ نفسه؛ ورجحانُ عقله، قيل في مأثور الحِكَم: "إذا تم العقلُ نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء: "كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإنها جماع الخيرات، وسبيل السعادة والنجاة، بها تزكو النفوس، وتستقيم الألسن، وتصلح القلوب، {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

عباد الله : إن دينَ الإسلام هو الدين الكامل في أحكامه؛ الشاملُ في تشريعاته، وقد هَدى إلى أرقى الأخلاق، وأرشد إلى أكمل الآداب، ونهى عن مساوئ الأفعال ومستقبح الأقوال، وإن مما وجه إليه الإسلام من الفضائل والآداب العناية بأدب الحديث، وحسنِ المنطق، وحفظِ اللسان عن اللغو وفضولِ الكلام، فلقد أكرم الله تعالى بني آدم؛ وميزهم بنعمة العقل والبيان، فحق هذه النعمة أن تُشكر ولا تُكفَر، وإن اللسان من أعظم الجوارح أثرًا، وأشدها خطرًا، فإن استُعمل فيما يُرضي الخالق؛ وينفع الخلق كان من أكبر أسباب السعادة والتوفيق لصاحبه في الدنيا والآخرة، وإن استعمل فيما يسخط الله؛ ويضر بالعباد ألحق بصحابه أكبرَ الأوزار؛ وأعظمَ الأضرار.

ولأجل ذلك عُني الإسلام بأمر اللسان أيّما عناية، فنجد النصوص من القرآن والسنة تدعو إلى حفظ اللسان وصيانة المنطق، فقال جل وعلا: {وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلإِنْسَـانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53]، ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل قولًا أو فعلًا، فقال عز شأنه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1 ـ 3].

فحِفْظُ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان، كما في الحديث عند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه» [صحيح الترغيب: 2554]، بل إن جوارحَ الإنسان كلَّها مرتبطة باللسان استقامة وانحرافًا، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاءَ كلَّها تكفِّر اللسان؛ تقول: «اتق الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا؛ وإن اعوججت اعوججنا» [صحيح الترمذي: 2407]، قال الإمام النووي رحمه الله: "معنى (تكفر اللسان) أي: تَذِلُّ له وتخضع".

وإن حفظَ المرء للسانه وقلةَ كلامه عنوانُ أدبه؛ وزكاءُ نفسه؛ ورجحانُ عقله، قيل في مأثور الحِكَم: "إذا تم العقلُ نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء: "كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".

إن المسلمَ الواعيَ ليحمله عقله ويدفعه إيمانه إلى الاعتناء بحسن اللفظ وجميل المنطق حين يرى المقام يدعو إلى الكلام، وإلا آثر الصمت ولزم الكف طلبًا للسلامة من الإثم، عملًا بتوجيه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في قوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» [صحيح البخاري: 6475].

وإن الطَّيِّبَ من القول مطلوبٌ وجميلٌ مع كل أحد من الناس، سواءٌ في ذلك الأصدقاء أو غيرهم؛ حتى مع الأعداء، فهو مع الأصدقاء سببٌ لاستدامة الألفة والمودة، وهو مع الأعداء مما يُذهب وَحَرَ الصدور، ويَسُلّ السخائم والضغائن، ويطفئ الخصومات، كما قال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

إخوة الإسلام، إن للِّسان آفاتٍ عظيمةً، وإن للثرثرة وفضول الكلام مساوئَ كثيرةً، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه"، وقال بعض السلف: "أطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مُنطلِق وفؤاد منطبق".

ولذا فمن الحزم والرشاد اجتناب فضولِ الكلام، وحفظ اللسان عن كل ما لا ينفع ولا يفيد في أمر دينٍ أو دنيا؛ إذ بهذا وصى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أمته، وحثها عليه، فقد روى الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «كُفَّ عليك هذا»، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم» [سنن الترمذي: 2616]، وروى الترمذي وغيره عن سفيان الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، ثم قال: (هذا).

ولأجل ذا كان سلف هذه الأمة وخيارُها يخشون خطر اللسان، ويحاذرونه غاية الحذر، فكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني شر الموارد"، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"، وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "أما يستحي أحدكم إذا نُشرت صحيفتُه التي أملاها صدْرَ نهاره أن يكون أكثرَ ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه".

اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال يا رب العالمين. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:

إن من يُطلقْ للسانه العنانَ لينطق بكلِّ ما يخطر له ببال؛ فإنه يوردُه موارد العطب والهلاك، ويوقعُه في كبائر الإثم وعظيم الموبقات، من غيبة ونميمة، وكذب وافتراء، وفحش وبذاء، وتطاول على عباد الله، بل وربما أفضى بالبعض إلى أن يجرِّدَ لسانَه مِقراضًا للأعراض بكلمات تنضح بالسوء والفحشاء، وألفاظ تنهش نهشًا، فيسرف في التجني على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والتنقص والازدراء، وتعداد المعايب، والكشف عن المثالب، وتلفيق التهم والأكاذيب، وإشاعة الأباطيل، لا يَحْجُزُه عن ذلك دينٌ ولا مروءة ولا حياء، كأنه لم يسمع قوله عز شأنه: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} [آل عمران: 181]، وقوله عز وجل: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وأين هو من قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء» [صحيح الترمذي: 1977]، وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنم» [صحيح البخاري: 6478]

فاتقوا الله عباد الله، ولتحفظوا ألسنتكم، وسائر جوارحكم عما حرم الله تعالى عليكم، ولتتذكروا على الدوام قول الحق جل وعلا: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

  • 15
  • 6
  • 16,104
المقال السابق
[73] الحجاب بتغطية الوجه
المقال التالي
[75] الحب الشرعي وعيد الحب

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً