مصروف الجيب

منذ 2016-03-09

يستند كل أسلوب تربوي إلى رؤية تحركه وتوجهه؛ وبالنظر إلى التأثير العميق الذي تمارسه الأسرة على التكوين النفسي والاجتماعي لشخصية الطفل فإن الأساليب المتبعة في تنشئته ملزمة باستحضار التوازن بين مرجعيته الإسلامية الصائنة لهويته وانتمائه وقيمه؛ وبين استلهام طرائق وأفكار صالحة لأن تُترجم إلى سلوك إيجابي ومثمر في حياته اليومية.

أمام تنامي النزعة الاستهلاكية وشيوع ثقافة الإسراف في الامتلاك والإنفاق، باتت الأسرة المسلمة أكثر استشعارا لما يترتب عن هذا الأمر من إفلاس أخلاقي، واهتزاز للوظيفة التربوية للآباء. إذ تراجع دور الأسرة كفاعل أساسي في تشكيل خبرات وعادات الطفل بعد أن تولى الإعلام زمام المبادرة؛ وأعلن بوقاحة أنه المحدد الأساسي لما ينبغي أن يتبناه الطفل من مواقف واستجابات!

لاشك أن هناك أسرا تبذل وسعها للوقوف في وجه الطوفان بما تملكه من ثوابت و قيم وخبرات، إلا أن أسرا عديدة لا تخفي رضوخها وعجزها عن التصدي لخصم شرس، يستحوذ دون هوادة على فلذات أكبادها، ويهدد بتفكيك ما تبقى من روابط. ويزيد الطين بلة أن تحررنا الجزئي من أساليب التربية التقليدية لم يصاحبه تمثل جيد لمبادئ التربية الحديثة، مما أوقعنا في فخ المحاكاة وتبني عادات الغير، وبالتالي إفراز جيل حائر بين مرجعيتين!

يمثل مصروف الجيب مدخلا لإرساء علاقة الطفل بالمال وإكسابه خبرات التعامل معه في الحياة اليومية، كما يتيح له استكمال بنائه النفسي عبر الدلالات الثاوية في سلوكيات الإنفاق والادخار والاستهلاك، كتعزيز شعوره بالأمن وحفزه على المبادرة والاعتماد على الذات.

بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه،ونحن نستحضر عددا من المشاهدات اليومية المؤسفة لانحراف هذا السلوك عن مقصده، يتعلق بمدى استيعاب الأسرة المسلمة اليوم لخطورة الفصل بين البعد الاقتصادي لمصروف الجيب وقيمته النفسية والاجتماعية. فكثير من الآباء، برأي الدكتور أكرم زيدان، يمنحون أطفالهم مصروف الجيب لأسباب مرتبطة إما بتجنيبه الشعور بالنقص أمام أقرانه، أو المسايرة الاجتماعية لما هو سائد، وأحيانا بدافع المباهاة وإظهار الثراء(1). وحين يفقد هذا الأسلوب حمولته التربوية ليصبح وسيلة لإظهار المكانة الاجتماعية للأسرة، فلا شك أنه سيؤثر سلبا على علاقة الطفل بالمال، ويغذي الميل إلى الأنانية والجشع والاحتيال وغيرها من الانحرافات.

إن عرض الآثار الجانبية المترتبة عن مصروف الجيب لا تعني الدعوة لحذفه من قائمة المطلوبات التربوية داخل الأسرة، وتزكية الطرح المضاد الذي يحرمه من مهارة التعامل مع المال بزعم أن الأسرة تلبي كافة الاحتياجات. فنحن أمام سيف ذي حدين يُحتم علينا ربط السلوك بالقيم التي تصونه، وترشيد علاقة الصغار بالمال بما يضمن استكمال البناء النفسي دون مخاوف!

وأول ما ينبغي العناية به في هذا الباب هو غرس القيم الدينية والأخلاقية اللازمة لإصدار القرار السوي، وإثارة كوامن الخير في نفوس الصغار. فتعويد الطفل استحضار المعية الإلهية وكون الإنسان مستخلفا لا يحق له مطلق التصرف في "مال" الله قاعدتان حيويتان تُوجهان علاقته بالمال نحو سبل إرضاء الله سبحانه؛ وتحمل المسؤولية الاجتماعية بتخصيص قسط من مدخراته الخاصة لأعمال البر والإحسان. وبذلك يكون لمهارات الإنفاق والادخار أبعاد خلقية وإنسانية تحرر الطفل من الأنانية، وتفتح مداركه على ما يضج به العالم من مشاهد البؤس والحرمان التي تستدعي منه موقفا إيجابيا يبدأ منذ الصغر بدريهمات قليلة من مصروف الجيب.

ثانيا يتيح هذا الأسلوب التربوي مناسبة لتأكيد قيمة العمل والكسب الحلال كما نصت عليهما آيات الكتاب والسنة، من خلال تكليف الطفل بمهام منزلية بسيطة يتلقى بموجبها مصروفه الشخصي باعتباره عضوا عاملا في أسرة متعاونة. لكن ينبغي الحرص على أن تتناسب المكافأة مع المهام المطلوبة، وألا تكون النقود دائما هي الحافز الوحيد.

ثالثا لا ينبغي أن يرتبط مصروف الجيب بمكافأة السلوك الجيد أو ثني الطفل عن السلوك السيء لأن النقود في هذه الحالة تصبح رشوة. ومن المؤسف حقا أن يكون هذا الموقف هو الأكثر شيوعا في البيوت المسلمة، وأن يكون مثار احتجاج من لدن المربين في الغرب. يقول مؤلفا كتاب " كيف يُنشئ الآباء الأكفاء أبناء عظاما"( لابد للآباء و الأمهات أن يكونوا حذرين وألا يمنحوا النقود سلطة هائلة، وذلك باستخدامها كوسيلة تربوية بأن يمنعوها في حالة إساءة السلوك ويمنحونها كمكافأة في حالة إحراز درجات دراسية جيدة. لابد أن تظل النقود بمنأى عن السلوك، وألا نربط بينهما لأن الأطفال الذين يربطون بين النقود والأداء قد يُعطونها أكثر من قدرها. عندها تصبح النقود هي مركز حياتهم)(2).

أما ريتشارد تمبلر فيحذر من اعتماد النقود حافزا وحيدا في كل المواقف (عليك أن تكون حذرا بشأن نوعية الحافز الذي تعطيه لأطفالك؛ فإذا كنت تحفزهم بالمال فقط، فأنت بهذا ترسل رسالة لأطفالك بأن تلك هي الطريقة التي يسير بها العالم ناهيك عن تعرضك للإفلاس!) (3).

يستند كل أسلوب تربوي إلى رؤية تحركه وتوجهه؛ وبالنظر إلى التأثير العميق الذي تمارسه الأسرة على التكوين النفسي والاجتماعي لشخصية الطفل فإن الأساليب المتبعة في تنشئته ملزمة باستحضار التوازن بين مرجعيته الإسلامية الصائنة لهويته وانتمائه وقيمه؛ وبين استلهام طرائق وأفكار صالحة لأن تُترجم إلى سلوك إيجابي ومثمر في حياته اليومية. ومصروف الجيب أداة تربوية وتثقيفية ينبغي أن تؤهل الطفل لتحمل المسؤولية واتخاذ القرار لا أن تكون مدخلا للسلبية والخضوع للغرائز واللذات العاجلة.  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ د.أكرم زيدان : سيكولوجية المال.سلسلة عالم المعرفة عدد351. الكويت 2008.
2ـ آلان وروبرت ديفيدسون: كيف يُنشئ الآباء الأكفاء أبناء عظاما.مكتبة جرير.الرياض2004.ص 289
3ـ ريتشارد تمبلر: قواعد التربية.مكتبة جرير.الرياض2010.ص 83

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 2
  • 0
  • 3,882

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً