أوراق في السيرة و الأخلاق - فوضى الحريات
إن الإنسان بطبعه يسعى لتحقيق أكبر قدر من الحرية؛ والانتفاع به في تأكيد ذاته وإشباع ميوله ورغباته. وإذا كانت الأديان والشرائع تحرص على تهذيب هذا السعي؛ والحؤول دون بلوغه رتبة الفوضى؛ فإن ما تضج به النفس من شر وفجور يدفع؛ تحت مسميات شتى آخرها الحداثة والقيم الكونية؛ صوب إلغاء المنهج الرباني؛ والالتفاف على منظومة الأخلاق بما يسمح للهوى أن يكون سيدا؛ ومرجعا في توجيه السلوك الفردي!
للأستاذ محمد قطب قراءة رصينة للسياق الذي تندرج فيه المطالبة بالحريات الفردية في العالم الإسلامي. وهو سياق يبعث على الاستغراب والشك أيضا!
يقول في كتابه: "منهج التربية الإسلامية " إن هذه الجاهلية؛ لغاية في نفس يعقوب؛ تطلق الحرية الشخصية للإنسان ابتداء من فترة المراهقة ثم خاصة في فترة الشباب لتحطم بها مقدسات البشرية كلها من عقيدة وأخلاق؛ بينما هي تضيق كل التضييق على هذه الحرية الشخصية في المجال الذي كان ينبغي أن تطلق فيه!
فالدين والأخلاق والتقاليد الاجتماعية والزواج والأسرة ..كل هذه نهب مباح للحرية الشخصية تقتحمها اقتحاما وتلتهمها التهاما ولا تذر فيها شيئا قائما على أصوله.
أما حين تمس مصالح الرأسمالية في الغرب؛ أو تمس مصالح الحزب الشيوعي الحاكم؛ أو اللجنة التنفيذية العليا؛ أو الزعيم المقدس في الشرق؛ فهنا تخرس الألسنة المدافعة عن الحرية الشخصية أو تُخرس؛ وتتسارع الأنظمة والتشريعات وأجهزة السلطة في تأديب المعتدي الأثيم الذي سولت له نفسه ما سولت؛ وقد لا ترضى في تأديبه أقل من الإعدام؛ ويقال عندئذ أنه اعتدى على الصالح العام!" (1)
إن الإنسان بطبعه يسعى لتحقيق أكبر قدر من الحرية؛ والانتفاع به في تأكيد ذاته وإشباع ميوله ورغباته. وإذا كانت الأديان والشرائع تحرص على تهذيب هذا السعي؛ والحؤول دون بلوغه رتبة الفوضى؛ فإن ما تضج به النفس من شر وفجور يدفع؛ تحت مسميات شتى آخرها الحداثة والقيم الكونية؛ صوب إلغاء المنهج الرباني؛ والالتفاف على منظومة الأخلاق بما يسمح للهوى أن يكون سيدا؛ ومرجعا في توجيه السلوك الفردي!
وفي ظل مايعيشه العالم الإسلامي اليوم من تحديات مرتبطة بالتنمية والتقدم ومواجهة آثار العولمة؛ يُصبح مطلب تعزيز الحريات الفردية أساسيا لإنضاج الشروط الكفيلة برفع هذه التحديات. فالحرية هي العنصر التأسيسي للمبادرة الفردية والفعالية الاجتماعية؛ وبدونها تفقد كل دعاوى التغيير والتحديث روحها وجدواها. غير أن المتتبع لما يروج في المشهد الإعلامي والحقوقي من مطالب وتوصيات لا يُمكنه التسليم بأن الدفاع عن الحريات الفردية يروم فعلا دعم خطط التنمية وتحقيق النهوض الحضاري!
في الآونة الأخيرة شهد المغرب جدلا حادا بشأن مناداة بعض الجمعيات الحقوقية والمنابر الإعلامية بإلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي الذي ينص على معاقبة كل رجل وامرأة تم ضبطهما يُمارسان علاقة غير شرعية.
أما المبرر الذي يسوقونه فمرتبط بالقيود التي يفرضها القانون على الحريات الفردية؛ وبعدم تبعية هذه الأخيرة لأية قوة خارجية سوى إرادة الفرد وقراره الذاتي!
وإذاكان وزير العدل المغربي قد اعترض على هذا المطلب؛ لكونه فسادا يهدم مباديء النظام العام ويتنافى مع هوية المغرب الإسلامية؛ فإن الحدث أعاد للواجهة مسألة الحريات الفردية في العالم الإسلامي؛ وكذا السياق المغرض الذي تندرج تحته!
أول ما يلفت الانتباه في هذه المقاربة الفجة لمدلول الحرية الفردية هو عجزها عن تبين الفروق الواضحة بين القانون والمنظومة الأخلاقية للمجتمع. فالأخلاق هي المسؤولة عن اجتذاب الإنسان للقيم والمثل العليا التي يجب أن يتناسق سلوكه معها؛ أما القوانين فلا تعدو وظيفتها الحفاظ على الحد الأدنى من الأخلاق الذي يصون كيان المجتمع.
ثانيا أن الإقرار بورود النقص في الفعل البشري يقتضي خضوعه لسلطة عليا توجهه وتحول دون انسياقه خلف رؤى وأوهام مضللة. وميزة الإسلام أن التوجيه الرباني فيه يرتقي بالفطرة الإنسانية ويُعودها الإنصات لنداء القيم. بينما دعاة الحرية الفردية الشوهاء؛ وإن كانوا يُقرون بالنقص البشري؛ إلا أنهم يدفعون صوب تحرير الإرادة من أي توجيه حتى لو كان ربانيا؛ وأن يكون الفعل البشري محصلة للقرار الذاتي حتى لو أطاح بكل المُثل! فحرية التصرف بالجسد تبيح؛ برأيهم؛ اللواط والسحاق والإجهاض وسائر تعبيرات الدرك الأسفل من الحيوانية.
ثالثا أن الاندفاع المجنون في الغرب لإقرار الحريات الفردية هو وليد ثورته على نظام كهنوتي مغلق؛ وكنيسة استعبدت النفوس وحجرت على الفكر قرونا عديدة. إلا أنها كانت ثورة عمياء لم تتبين الحدود الحقة بين بشارة المسيح وتلفيقات المجامع الكنسية! ..بل الأسوأ من ذلك أن الغرب يُمارس الحجر والعسف الذي اكتوى به على غيره من الأمم حين يفرض نموذجه التنموي ومعاييره الاجتماعية والفكرية.
فدعاة الحريات الفردية غير الملجمة بدين أو تشريع إنما هم في الحقيقة أوصياء على الفوضى القادمة؛ لذا فخيار التوعية الدينية والتربوية الحقة هو خيار مصيري ينبغي النهوض به على الوجه الأكمل لترسيخ التصور الإسلامي للحرية.
إن مجابهة صور التخلف والاستبداد التي يرزح تحتها المجتمع الإسلامي تقتضي تعزيز الحرية كحافز للتغيير الاقتصادي والاجتماعي. فالمسلم المعاصر بحاجة لممارسة حريته السياسية والفكرية والمدنية بما يؤهله للعطاء والانتاج والنهوض بواجب الاستخلاف. لكن المنطق الأعمى الذي يحكم هؤلاء لا يروم خدمة هذه الأغراض تحديدا؛ فجل مسعاهم هو إثبات ولائهم لمنظومة غربية مفككة؛ وتأكيد إيمانهم بأن تحرر الفرد من كل ضابط شرعي وأخلاقي هو السبيل الأمثل لبلوغ الرقي والتجديد الحضاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأستاذ محمد قطب.منهج التربية الاسلامية .ج2 . دار الشروق ط2 1992. ص 289
- التصنيف: