أمثال قرآنية - [21] فيه شركاء متشاكسون
وهذا المثل كما أن المراد منه تمثيل حال المؤمن الموحد وحال الكافر المشرك، فهو كذلك يصلح مثلاً لكل متبع للحق، ولكل متبع للباطل؛ فإن الحق هو كل ما وافق الواقع، والباطل هو كل ما خالفه، فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله، ولا ما يثقل عليه أعماله، ومتبع الباطل يتعثر به باطله في مزالق الخطى، ويتخبط في أعماله بين تناقض وخطأ.
ضرب الأمثال للناس أسلوب قرآني اعتمده القرآن لتقريب الحقائق للناس، ليفرقوا بين ما هو حق فيتبعوه، وما هو باطل فيجتنبوه، وليميزوا بين ما هو خير فيتمسكوا به، وما هو شر فيبتعدوا عنه، فأنت تجد في القرآن أمثال أهل الخير وأهل الشر، وأمثال أهل الحق وأهل الباطل، وأمثال أهل التوحيد وأهل الشرك، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27].
ومن الأمثال القرآنية التي ضربها الله للناس مثالاً لأهل التوحيد وأهل الشرك، قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر من الآية:29]، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد: هذه الآية ضُربت مثلاً للمشرك والمخلص.
و(التشاكس) في اللغة: شدة الاختلاف والتنازع؛ يقال: الليل والنهار متشاكسان، أي: أنهما متضادان ومختلفان، إذا جاء أحدهما ذهب الآخر. و{رَجُلًا سَلَمًا} أي: سالماً لرجل خالصاً، لا يملكه أحد غيره.
وقد جاء هذا المثل القرآني في سياق الحديث عمن شرح الله صدره للإسلام، فعرف طريق الحق، فآمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ومن ضلَّ عن طريق الهداية فقسا قلبه، فكان في ضلال مبين، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الزمر:22].
فبعد أن بالغ سبحانه في تقرير وعيد الكفار، أتبع ذلك بذكر مثل يدل على فساد مذهبهم، وقبح طريقتهم، مبيناً حال العبد الموحد الذي يعبد الله وحده، ولا يشرك معه أحداً من خلقه، وحال العبد المشرك الذي يعبد شركاء عدة، لا يعرف كيف يرضيهم جميعاً.
ووجه التمثيل أن سبحانه شبه حال المشرك الذي يعبد آلهة متعددة، بحال عبد له أكثر من سيد يخدمه ويطيعه، فكل واحد منهم يأمره بما لا يأمره به الآخر، فيعضهم يقول له: افعل، وبعضهم يقول له: لا تفعل؛ وبعضهم يقول له: أقبل، وبعضهم يقول له: لا تُقبل...فهو حائر في أمرهم، لا يدري أيهم يرضي، فإن أرضى هذا أغضب ذاك، فهو لأجل هذه الحال يعيش في عذاب دائم، وتعب مستمر.
أما مثل حال المؤمن الموحد فقد شبهه سبحانه بحال العبد الذي يعمل تحت إمرة سيد واحد، فلا أمر لأحد عليه إلا أمر ذلك السيد، ولا نهى لأحد عليه إلا نهي ذلك السيد، فهو مطيع له على كل حال، وهو ساع لكسب وده ونيل رضاه من غير ملال. ثم هو غير مشتت الهوى، ولا مبعثر القوى؛ لأن وجهته واحدة غير متعددة، ومقصوده واحد غير متناقض.
والمراد من هذا التمثيل بيان حال من يعبد آلهة متعددة، فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء من الآية:22]، وقال سبحانه: {مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} [المؤمنون من الآية:91]، فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد، يدعو هذا ثم يدعو ذاك، لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في موضع، فهو حائر مشتت القلب والذهن؛ بخلاف الموحد فهو في راحة تامة وطمأنينة كاملة. وهكذا سُنَّة الحياة جارية على أن تعدد الرؤساء يفسد الأمر، ويشتت السعي.
ولا شك فإن هذين العبدين غير مستويين في المنـزلة وغير مستويين في الخدمة، ولا يمكن لعاقل أن يصرح باستوائهما؛ لأن أحدهما في منـزلة محمودة، والآخر في منـزلة مذمومة غير محسودة؛ وذلك أن العبد الذي يخدم عدة شركاء، يريد كل واحد منهم أن يستخدمه لحسابه الخاص قدر المستطاع، ولو كان ذلك على حساب تقصيره في خدمة الآخرين، وبالتالي فإن المهمة على هذا العبد تكون مضاعفة، وهو مع هذا لا ينال من الرضا شيئاً يذكر، بل الغاضب عليه أكثر من الراضي، والذامِّ له أكثر من الشاكر.
ثم إن من كانت هذه حاله لا يمكن أن تُستجاب مطالبه إلا بشق الأنفس، ولا يمكن أن تُقضى حاجاته إلا بجهد جهيد؛ لأن كل شريك من الشركاء يتهرب من تقديم العون له، ويحيله على غيره من الشركاء.
أما الأمر في حق من يخدم سيداً واحداً فهو مختلف تماماً، فإن جهده محدود، وعمله واضح، والعادة من سيده أن يستجيب لحاجاته، ويُقدم له من العون قدر ما يستحق، فكانت منـزلته أحمد، وخدمته أقصد.
قال الرازي: "وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد"؛ إذ المقصود من ضرب هذا المثل إقامة الحجة على المشركين، وتعنيفهم لأجل مواقفهم الرافضة للاعتراف بالواحد الأحد، وكشف سوء حالتهم في الإشراك.
وهذا المثل كما أن المراد منه تمثيل حال المؤمن الموحد وحال الكافر المشرك، فهو كذلك يصلح مثلاً لكل متبع للحق، ولكل متبع للباطل؛ فإن الحق هو كل ما وافق الواقع، والباطل هو كل ما خالفه، فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله، ولا ما يثقل عليه أعماله، ومتبع الباطل يتعثر به باطله في مزالق الخطى، ويتخبط في أعماله بين تناقض وخطأ.
وحاصل هذا المثل القرآني: أن من وحد عبوديته لله سبحانه، وأخلص له في عبادته، واتبع الحق الذي أمر به، كان في الدنيا سعيداً رضياً، وفي الآخرة فائزاً مرضياً؛ أما من أشرك مع الله آلهة أخرى، فقد ضل سواء السبيل، وعاش دنياه حائراً غير آمن، فهو خاسر للدنيا قبل خسران الآخرة.
- التصنيف:
- المصدر: