الهيرع الغطريس
إن "الكِبْرَ والتكبُّر" من الصفات القبيحة التي يتصف بها ضِعافُ النفوس، الذين لا همَّ لهم إلا أنفسهم وكبرياؤهم، فقلوبهم مليئة بهذا المرض العضال الذي يقتل الصداقة، ويُفرِّق بين الناس، بل ويجعلهم أحزابًا متناحرة تكرَهُ بعضها البعض.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن "الكِبْرَ والتكبُّر" من الصفات القبيحة التي يتصف بها ضِعافُ النفوس، الذين لا همَّ لهم إلا أنفسهم وكبرياؤهم، فقلوبهم مليئة بهذا المرض العضال الذي يقتل الصداقة، ويُفرِّق بين الناس، بل ويجعلهم أحزابًا متناحرة تكرَهُ بعضها البعض.
ولذلك اخترت لهذه الصفة القبيحة عنوانًا واسمًا يَصِفُها، ويبين دناءة هذه الصفة؛ وهو: "الهَيْرَعُ الغِطْرِيسُ"، فالمقصود بالهيرع هو: "الإنسان الذي لا خيرَ فيه"، ومعنى الغطريس هو: "الرجل المتكبر المُعجَبُ بنفسه"، فالكبر هو الصفة الرابعة من سلسلةٍ قد بينا فيها الصفات القبيحة التي قد يَتَّصِفُ بها بعض الأصدقاء، وقد تحدثنا سابقًا عن ثلاث صفات، وهي: الصفة الأولى: "الخَلْنَبُوسُ اللَّعْوَس"، الصفة الثانية: "الهَثْهاث العَفَنَّط" الصفة الثالثة: "القُنْفُع الخُبْرُوع" وأما الصفة الرابعة: "الهَيْرَع الغِطْرِيس": فهي محور حديثنا في هذا المقال، فأقول:
يُعدُّ الكِبر من الأمراض القلبية الخطيرة، التي تؤثِّر في النفس المسلمة، ومن أشد الأمراض الاجتماعية فَتْكًا بالأخلاق والمبادئ والقيم الإسلامية العُظمى؛ وذلك لما له من الآثار السيئة على مسيرة الفرد والمجتمع الإسلامي؛ إذ هو من مطايا الشيطان المفضلة لصدِّ الناس عن اتباع الحقِّ، والبعد عن الطريق المستقيم. وقد عرَّف الراغب الأصفهاني الكِبْرَ فقال: "الكِبْر: هو ظنُّ الإنسان بنفسه أنه أكبرُ من غيره، والتكبُّر إظهار ذلك"؛ (مفردات ألفاظ القرآن: 1/ 697).
وقد عرَّفه السيد نوح في كتابه آفات على الطريق أنه: "إظهار العامل إعجابَه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم، وينال من ذواتهم، ويترفع عن قَبول الحق منهم"؛ (آفات على الطريق: 1/ 100).
وقد ذمَّ الله تعالى في كتابه هذه الصفةَ القبيحة، فقال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، ومعنى التصعُّر: مادة "ص ع ر": "الصَّعَر: بفتحتين، الميل في الخدِّ خاصة، وقد صعَّر خده تصعيرًا، و صاعره؛ أي: أماله من الكِبر"؛ (مختار الصِّحاح).
والصعر: داء يُصيب الإبل فيلوي عُنُقَه، فاستعار هذا الأسلوب كنايةً عن التعالي والاستكبار على الناس؛ ليرفع ذلك الحكيم في نفس ابنه أن هذا السلوك الشاذَّ هو بمثابة داء نفسي، يُصيب الإنسان مثلَ داء الصعر الذي يصيب الإبل، واستخدامه لهذا الأسلوب في النهي عن الكبر أبلغُ في التنفير منه والزجر عنه من استخدامه للنهي بدونه؛ فهو يخاطب وِجْدان ابنه كما أسلفنا، فيُشعرُه بأن هذا السلوك هو سلوك حيواني، ولا يسلكه الحيوان إلا إذا كان به مرض، فيجدرُ بالإنسان المُكرَّم المعافى ألا يَسْلُكَ مثل هذا السلوك الذي تنفر منه الطِّباع. وجاء في تفسير هذه الآية: "ولا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولا تمشِ في الأرض بين الناس مختالاً مُتَبخْتِرًا، إن الله لا يحبُّ كلَّ متكبر متباهٍ في نفسه وهيئته"؛ (التفسير الميسر).
ولكي نعرف هذا المتكبِّر عن غيره؛ لا بد لنا أن نعرفَ ما هي سِماته وصفاته التي يُعرَفُ بها وتُميِّزُه عن غيره؛ ولذلك فالمتكبِّرُ له سِمات ظاهرة، وعلامات بها يُعرَفُ، ومن هذه السمات الواضحة:
أولًا: المظاهر الخداعة التي يعتمد عليها المتكبِّرُ في تعامله مع الناس، ومن هذه المظاهر التي يعتمد عليها المتكبر: اللِّباس الذي يظن أنه سيرفعُه منزلةً عالية عند الناس، وأيضًا مشيته المختالة التي يتبجَّحُ بها، ويتعمد فِعلَها؛ ليُحقِّقَ ما في نفسه من كِبر وخيلاء على الآخرين.
ثانيًا: ومن سمات هذا الهيرع الغطريس أنه يتعامل مع مَن حوله بفوقية، فهو يراهم مِن أعلى، فطبعه الازدراء واستحقار الغير، وصدق الشاعر حينما قال:
ولا تمشِ فوق الأرض إلا تواضعًا *** فكم تحتها قوم همُ منك أرفعُ
وإن كنت في عزٍّ رفيعٍ ومَنْعَةٍ *** فكم مات من قوم همُ منك أمنعُ
ومن المعلوم أن الله ذمَّ هؤلاء القومَ الذين وصَفوا الناسَ الذين اتبعوا نوحًا عليه السلام أنهم أراذل محقورون، وترفعوا عن مخالطة من آمن بدعوة نوح عليه السلام، قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
فالتكبُّر داء يُبعِدُ الإنسان عن الحقيقة العُظْمَى، وهي اتباع الطريق المستقيم، ويدعو إلى مجانبة الحق، ومصاحبة الباطل، قال سيد قطب رحمه الله: "الدعوة إلى الخير لا تُجيزُ التعاليَ على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير، ومن باب أَولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل"؛ (في ظلال القرآن: 6/ 487)
ثالثًا: مِن سِماته الظاهرة التي يُعرَفُ بها: حديثُه وكلامه، ولكي تتبين لك هذه السمة دَعْه يتكلَّم، فستعرفه من كلامه المصحوب بالعُجب واستحقار الناس وغمطِهم؛ لذلك عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكِبر فقال: « » [صحيح مسلم: 91]
رابعًا: ومن سماته أيضًا أنه لا يقبلُ الحقَّ ويبطره، كما أنه يستخدم عبارات تُشعِرُك بأنه هو الأفضل وغيره الأضعف.
خامسًا: ومن سمات هذا الغطريس التي تُميِّزه عن غيره أنه دائمًا يحاول مخالفة الناس ترفُّعًا عنهم، فلا يقبل رأيَ غيرِه ويمقته.
وأخيرًا: أقول لك أيها المتكبر الغطريس: اتقِ الله، وحاسب نفسك، وتَحَلَّ بخُلق التواضع الذي إن جعلتَه خالصًا لصاحب الكبرياء والعظمة، رزقك الله به حبًّا يَضَعه لك في قلوب الناس، ورفعة لك في الدنيا والآخرة، ولتتذكر دائمًا هذه الأبيات التي تصف المتكبر، وتبين حقيقتَه التي خلقه الله عليها:
يا مُظهِر الكبر إعجابًا بصورته *** انظُرْ خلاك فإن النَّتْن تثريبُ
لو فكَّر الناس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكِبْر شبانٌ ولا شيبُ
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة *** وهْو بخمس من الآفات مضروبُ
أنف يسيل وأُذْن ريحُها سَهَكٌ *** والعين مرفضة والثغر ملعوبُ
يا بن التراب ومأكول التراب غدًا *** أَقْصِرْ فإنك مأكول ومشروبُ
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم اجعلنا من أهل التواضع، وابعِدنا عن الكبر والتكبر، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جُودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: عبد العزيز سالم شامان الرويلي
- التصنيف:
- المصدر: