زفرة وحنين ولمسة وفاء

منذ 2016-08-07

هذا الصديق القريب توفيت والدته في مقتبل عمرها؛ إذ كان عمرها لما فارقت الحياة ثنتين وعشرين سنة، وكان عمر صاحبنا أنذاك سنةً ونصف، حيث أنجبت والدته أختاً له، ثم أنجبته، ثم أنجبت أخاه الثالث، وبعد ولادته بأيام فارقت الحياة بسبب مرض أصابها.

لي قريب من أعز الأقارب والأصدقاء أعرفه منذ الطفولة الباكرة بمروءته، وصدقه، وأخلاقه الطاهرة.

هذا الصديق القريب توفيت والدته في مقتبل عمرها؛ إذ كان عمرها لما فارقت الحياة ثنتين وعشرين سنة، وكان عمر صاحبنا أنذاك سنةً ونصف، حيث أنجبت والدته أختاً له، ثم أنجبته، ثم أنجبت أخاه الثالث، وبعد ولادته بأيام فارقت الحياة بسبب مرض أصابها.

وفي يوم من الأيام كنت أنا وصاحبي عائدين من سفر عبر السيارة؛ فكنا نتجاذب أطراف الأحاديث التي نقطع بها الطريق، فحدثني حديثاً لم يخطر بباله أنه سيقع مني موقعه، أو أنه سيكون له ذلك الدويّ بعد أن غردت عنه تغريدتين مختصرتين عبر (تويتر) فكان لهما أثر بالغ في نفوس من قرؤوا تلك التغريدتين، أو علَّقوا عليهما، أو عبروا عن ذلك مشافهة.

ولما أخبرته بذلك أخبر والده بما حصل، ولم يخطر بباله أن ذلك الحديث سيبلغ من والده ذلك المبلغ المؤثر الذي جعله يكفكف دموعه طيلة  الطريق الذي كانا يسيران فيه وهما قادمان من سفر.

وخلاصة ذلك الحديث أن صاحبي تكلم عن والدته، وأخبر أنه لايذكر هيئتها البتة؛ إذ كيف يذكرها وعمره لما توفيت سنة ونصف؟

وأخبرني أن جدته لأبيه كانت على الوجود وتوفيت قبل سنوات، وأن جدته لأمه حية ترزق إلى الآن، وأن الله عوضه بهما الكثير من جراء فقد الوالدة، وأن والده الكريم الذي هو كالصديق الحميم له قد أشرق عليه بعطفه وحنانه صغيراً، وكان نعم الأنيس والصاحب عندما كَبِر وشب عن الطوق، كما أن لصاحبنا أعماماً كالآباء بالنسبة له.

يقول صاحبي: وبالرغم من ذلك كله فقد بقيت في نفسي غصة ولهفة وشوق لا يُتَصَوَّر على والدتي؛ فأنا الآن قريب من الخمسين، ولا تكاد ذكرى والدتي تغيب عني لحظة، وأشعر بين الفينة والفينة أنني سأقابلها، وإذا سمعت أحداً ينادي أمه تذكرت والدتي، ولولا أني أؤمل وأحسن ظني بربي أنني سأراها في آخرتي لربما تضاعفت تلك اللهفة.

ويواصل صاحبي حديثه قائلاً: وأخبرك أن قبرها لا أعرفه على وجه التحديد، وإنما أعرف جهته في المقبرة، حيث قال لي بعض أقاربي: إنه في تلك الجهة؛ فكنت أسلم عموماً على تلك الجهة؛ رجاء أن أكون قد أدركت ذلك القبر، أو قربت منه.

وهكذا استرسل صاحبي في الحديث على هذا النحو، الذي يعبر من خلاله عن مدى شوقه لأمه.

والذي أكاد أجزم به أن صاحبي لم يترك باباً من أبواب البر التي يستطيع أن يَبُرّ أمه من خلالها إلا سلكه.

أما بيت القصيد، ونفثة السحر في ذلك الحديث المشجي فيكمن في قوله بعد أن تأوَّه آهةَ الرجلِ الحزين: سأحدثك حديثاً ربما لم أتحدث به قبل هذه المرة؛ فزادني شوقاً إلى ذلك الحديث، فقلت: وما هو؟ قال: لما كانت ليلة زواجي، وذهبت إلى منزل أهل الزوجة، وبعد أن دخلت بزوجتي، ومكثت في منزل أهلها وقتاً قصيراً - خرجت بها؛ لكي أذهب إلى منزلي الجديد، وبينا أنا في الطريق، ومن دون سبق تخطيط أو إعداد أو تفكير  وجدتُني أُعرِّج بسيارتي نحو المقبرة التي دفنت فيها والدتي.

ولما وصلت إلى هناك ترجَّلتُ، ومشيت إلى حيث ناحية القبر، ثم وقفت،وتمتمت بكلمات لم أرتب لها، وقلت: يا أمي لقد تزوجت هذه الليلة من فلانة، وأخذتها قبل قليل من بيت أهلها، وأنا الآن متجه إلى بيتي الجديد، والسلام.

ثم خرجت من المقبرة وأنا أكفكف دموعي، ثم ركبت السيارة، وذهبت إلى منزلي وسط ذهول زوجتي، فهذا أحد المواقف التي تمر بي في ذكرى والدتي التي:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي أمي بكل سبيل

ولما انتهى من ذكر تلك الحادثة وجمنا برهة في لحظة سكون وذهول، ثم واصلنا الحديث إلى أن وصلنا بلدنا.

وبعد فترة قريبة قابلت صاحبي، وأخبرته عن أثر تلك القصة في نفسي، وأني حدثت بها كثيرين، وغردت بها عبر تويتر بتغريدتين؛ فكان لهما أبلغ الأثر في الوفاء والبر للوالدة بعد موتها.

فعجب صاحبي من ذلك، وقال: لم يخطر ببالي أن تبلغ تلك الحادثة ما بلغت.

وبعد مدة قابلت صاحبي، فقال لي: لقد كنت في سفر عبر السيارة مع والدي؛ فأردت أن أقطع الطريق بالحديث معه، فأخبرته بما دار بيني وبينك؛ فما راعني إلا ذلك النشيج من والدي ؛ حتى إنه كلما هم بالحديث عاوده النشيج؛ فاستحيا منِّي، وارتدى نظارته الشمسية بالرغم من أننا نسير في الليل.

فهذه هي خلاصة حكاية ذلك الصديق القريب، وهي ترينا لوناً من ألوان البر للوالد بعد الوفاة، وتعطينا درساً حيًّا في الوفاء ورعاية الحقوق حتى بعد الممات، وصدق أبو الطيب إذ يقول:

إن خير الدموع عيناً لدمعٌ *** بعثته رعايةٌ فاستهلا

والعجيب أنني حدثت بهذه القصة بعض الأحبة؛ فكان بعضهم بعد الحديث يستأذن، ويقول: أجد الآن في نفسي شوقاً لأمي لا أستطيع مقاومته؛ فلا بد لي من الذهاب لرؤيتها.

أما أنا فإذا حدثت بهذا الحديث تذكرت والدتي، فأترحم عليها، أو أتصل بإحدى خالتَيَّ - متعهما الله بالعافية - لأجد روح والدتي، أو أذهب إلى قبرها؛ لأسلم عليها.

وإذا دخلت المقبرة في جنازة ما - صرت أنظر إلى قبرها، وأتذكر بيتي الأحوص:

يا دار عاتكة التي أتغزَّل *** حذر العدا وبك الفؤاد موكَّلُ
إني لأمْنَحُك الصدود وإنه *** قسم إليك مع الصدود لأمْيَلُ

أو قول جميل:

أقلب طرفي بينهن فيستوي *** وفي القلب بونٌ بينهن بعيد

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 2
  • 0
  • 2,100

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً