تأملات مع ألعاب الأطفال

منذ 2016-08-20

كلما أخذت أبنائي إلى متنزه أو مكان مفتوح يلهون فيه ويتأرجحون  كلما لفتت نظري تلك الأراجيح التي يجتمع عليها الأطفال
ما أشبهها بحياتنا وما أشبه كثير منا بأولئك الصبية المتأرجحين
هل كان ذلك الشاعر  الشعبي يقصد في تشبيهه ذلك المثال الوجودي العميق
لست أدري
لكن ما لا شك فيه أن كلماته حملت جزءا من الحقيقة
(الدنيا زي المرجيحة)
وسكانها هم المتأرجحون إلا من رُحم
تأمل مثلا هذه (الزحليقة) !
ألا يذكرك المتزحلقون عليها والهاوون من أعلاها إلى أسفلها رويدا رويدا في البداية ثم تتسارع أجسادهم الصغيرة حتى تصل إلى الأرض وقد صعدوا منذ قليل درجات سلمها كلها حتى كانوا على قمتها قبل أن يختاروا السقوط بكامل إرادتهم؛ ألا يذكرك هؤلاء بأولئك المتساقطين عن مبادئهم السامية وأفكارهم الراقية والتي اختاروا أن (يتزحلقوا) عليها ويتنازلوا عنها واحدة تلو الأخرى حتى تخلوا عنها كلها ووصلوا أيضا إلى القاع 
قاع (الزحليقة)
وانظر لتلك (المرجيحة) التي يجلس عليها أحد الصبية باسترخاء وتلذذ بينما يتفانى أصدقاؤه من خلفه في دفعها ليرتفع ضاحكا مستمتعا لكنه لا يلبث أن يعود إلى سابق وضعه مرة أخرى فيدفعونه من جديد وقد نفرت عروقهم وتعرقت أجسادهم لفرط المجهود الذي يبذلونه ليظل ذلك الجالس المسترخي مستمتعا بارتفاعه إلى عنان السماء بفضل دفعاتهم وجهدهم..
ألا يُذكرك مشهدهم بأولئك البؤساء الذين يرتفع غيرهم على أكتافهم وبفضل دفعات جهدهم واجتهادهم ويرتقي الوصوليون على سلم إنجازاتهم بينما لا ينالهم هم إلا التعب والنَّصَب؟!
ومشهد ذلك الطفل الجالس المستريح المستمتع بدفعات الآخرين التي لا يرتفع إلا من خلالها ألا يذكرك هذا المشهد بأولئك "التنابلة" المتنطعين الذين لا قيمة لهم ولا فائدة تُرجى منهم ولا يُعرف لهم ذكر إلا عبر بذل الغير وتضحيات الناس لأجلهم وكأن الكون لا يدور إلا حولهم ولا هَمَّ للخلق إلا رفع درجاتهم؟!
وياليتهم يبقون في تلك الدرجات ولكنهم لا يلبثون إلا ويرجعون لمكانهم بعد حين طالبين المزيد والمزيد من الدفعات والتضحيات ليظلوا على ارتفاعهم الزائف وقمتهم المؤقتة
هناك أيضا تلك "المرجيحة" المستديرة والتي يجلس فيها الأطفال ثم تتحرك بهم في حركة دائرية مستمرة وكلما ازدادت السرعة ازدادت معها متعتهم حتى ينزلون منها وقد انتقل الدوران إلى رؤوسهم وبدا ظاهرا على أجسادهم المتثاقلة التي تكاد تسقط لفرط اختلال توازنهم الناشيء عن الدوار الذي أصابهم
هذه اللعبة تحديدا محيرة بالنسبة لي
فلماذا يحرص طفل على أن يصيبه الدوار ويختل توازنه ليترنح بهذا الشكل؟!
ما المتعة في ذلك الدوران ثم التمايل والترنح وربما الغثيان والقيء؟!
كيف يؤذي إنسان نفسه بإرادته؟!
الإجابة قد تكمن في كونه طفلا
طفلا لا يميز بين ما ينفع ويضر
لكن ماذا عن أمثالهم من الكبار الذين يحرصون على امتطاء كل ما يدير رؤوسهم ويذهب بتوازنهم أدراج الرياح؟!
ما الذي يدفع شخصا بالغا ليفعل بنفسه مثل ذلك بأي وسيلة كانت حتى تراه في نهاية الأمر مترنحا متمايلا لا يكاد يقيم جسده بشكل مستقيم
أي متعة في ذلك؟!
ربما كانت الإجابة على تلك الأسئلة هي نفس إجابة نا سبقها
إنهم أيضا أطفال غير مسؤولين وإن شابت رؤوسهم وطالت لحاهم
أما تلك الأرجوحة التي تبدو من بعيد فهي أحبهم إليّ
تلك التي تبدو هنالك كالميزان تتصاعد كِفتاه بالتبادل
إنها لعبة تكافلية يستمتع فيها الطرفان بشكل شبه متساوٍ طالما كان وزن كل منها يكافيء وزن الآخر 
لكن ماذا عن ذلك الميزان إذا احتل أحد طرفيه طفل بدين ثقيل الوزن؟!
ألا ترى استماتة هذا الطفل النحيل على الطرف المقابل كي يتوازن معه بلا فائدة؟!
ها هو الميزان يتوقف وتتوقف معه متعة اللعب ولذته والسبب واضح معروف
إنه عدم التكافؤ
ألا يذكرك هذا المشهد بعشرات المشاهد المماثلة في حياتنا والتي يبدو فيها بوضوح فشل أي علاقة اجتماعية أو سياسية قائمة على هذا المبدأ الظالم
مبدأ عدم التكافؤ وغياب التعادلية المؤدي دوما لنتيجة واحدة
اختلال الموازين!
كل الموازين
والمراجيح!

  • 2
  • 0
  • 979

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً