بسبع دبابات انهارت "خلافة" البغدادي.. وأمريكا قلقة!
أكانت مواجهة الأتراك العسكرية مع داعش في ذروة تمدد الأخيرة أو في لحظة انكسارها!
ظلوا ينفخون البالون...
دولة البغدادي تمتد بشهور إلى مساحة تفوق مساحة بريطانيا، أسلحة أمريكية ثقيلة "استولت" عليها قواته من الموصل وغيرها، صواريخ سكود، بمنصاتها العملاقة، دبابات، ومدرعات، عشرات الآلاف من الجنود، مئات "الانغماسيين"، آلاف الألغام، استحكامات قوية، ضباط بعثيون يجيدون التخطيط الإستراتيجي والتكتيك الميداني انضموا لـ"الخليفة"... الخ
قدرات هائلة، تستدعي تضافرًا دوليًا، لابد أن تنفق الدول الغنية عشرات المليارات لوقف زحف تنظيم الدولة نحو أوروبا شمالًا، ودول الخليج جنوبًا، خبراء من البنتاجون يقدرون حاجة التحالف الدولي لسنوات طويلة حتى يلحقوا الهزيمة بداعش...
وبيع الوهم، وانخرط الشباب الساذج من دول العالم في التنظيم، وبولغ في تعدادهم، وانتشر الترهيب...
قبل أن يقعده المرض، كان رئيس الكيان الصهيوني آرييل شارون يحذر بقوة من مغبة انتشار التطرف الإسلامي في أوروبا، قالها بصراحة: "إن وجود المسلمين في أوروبا بشكل أقوى عن أي وقت مضى يهدد بالخطر يقينًا حياة اليهود، هناك نحو 70 مليون مسلم يعيشون في الدول الأعضاء بالإتحاد الأوروبي" (حوار أجراه مع شارون موقع "إي يو بوليتيكس" المخصص لشؤون الاتحاد الأوروبي يوم 24/11/2003). لكن هذا التهديد لا مجال لإنهائه بالطرق الإعتيادية؛ فلكي يحد من خطره لابد من إجراءات إستثنائية تفرض في بلدان تعلي من قيمة القانون وتقوم على مبادئ ضمان الحريات الأساسية للمواطنين والمقيمين -أو هكذا يفترض-، ومثل هذه الطرق تستلزم أفعالًا صادمة... وفرها تنظيم داعش فيما بعد...
وفر وجود داعش العديد من الأهداف التي يمكن تحقيقها عبر الترهيب منه والمبالغة في قوته:
- تحويل حركة التحرر التي يقوم بها الشعب السوري عبر فصائله الثورية إلى "حالة إرهاب" تمثل رافعة قوية لنظام بشار، وترفده بمبررات استمرار "شرعيته" كنظام معترف به دوليًا يقاوم إرهابًا دوليًا (تحرص مثل هذه التنظيمات على اجتلاب شباب من أنحاء العالم لإضفاء العالمية عليها، وفي ذات الوقت يعد هذا أقوى مبرر للأنظمة الشمولية لنزع صفة الوطنية عنها).
- كسر شوكة الفصائل الثورية بطعنها بالظهر في حروبها ضد نظام بشار، والاستيلاء على مدنها، ويلاحظ في هذا الصدد أنه بذريعة تكفير المقاومين يصير بأس تنظيم داعش وأشباهه على الفصائل المقاومة أكبر من بأسها على النظم العلمانية الاستبدادية ذاتها.
- تأمين الموارد النفطية والثروات المعدنية وغيرها من أن تقع في أيدي المقاومين كي لا تمثل إضافة مادية لهم يمكنهم عبرها الاستقواء في حربهم ضد النظام النصيري، وهو ما يمنع استقلالهم في قرارهم، بالحؤول بينهم وتوفير الدعم اللوجيستي للجهد التحريري.
- إيجاد نقطة جاذبة لكل الشباب الذي لديه ميول "جهادية" حول العالم، ودفعهم إلى محرقة دولة البغدادي غرض تصفية المقصودين منهم.
- تسليم المدن السنية للميليشيات الشيعية في العراق، والمدن العربية للميليشيات الكردية في سوريا، عبر انسحابات غامضة مبرمجة، وقتال محدود.
- تنشيط عمل التنظيم في أطراف الدول، والابتعاد إلى حد كبير عن عمقها لتحقيق مخططات الإنفصال، وتركيز النشاط في أماكن يراد تصفيتها وتهجير أهلها، سواء أكانوا من السنة بصفة عامة أو حاضنة شعبية للفصائل المقاومة الثورية.
- إعطاء الذريعة للدول الإستبدادية في المنطقة لدمغ كل الحركات الإسلامية بالدعشنة، وخلق مناخ للبطش بالمعارضات السياسية تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، وأن لا صوت يعلو فوق صوت هذه الحرب.
- تخفيض معدلات دخول الأوروبيين في الإسلام، وإيجاد صورة شائهة عن الدين الإسلامي تنفر منه أصحاب الفطر السليمة، تلك الصورة التي تظهر صورة الذبح وإخفاء صورة الدعوة (لم يقم تنظيم داعش أو القاعدة بالسابق بأي جهد دعوي للتعريف بالإسلام أو التوحيد والعقيدة الإسلامية، ولم يهب لنصرة الإسلام بالكلمة في أي موضع كان بشكل عالمي على النحو الذي يقوم به في جهده العسكري).
- تقديم ذريعة للحكومات الأوروبية باتخاذ إجراءات وسن قوانين تمييزية ضد المسلمين مستفيدة من الزخم الإرهابي الذي وفرته مشاهد الذبح في مقاطع داعش الهوليودية، وبالتالي منح هذه السلطات أداة للتضييق على المسلمين مرفودة بتأييد شعبي، وتمكين الأحزاب والقوى اليمينية من تولي السلطة في عدد من دول أوروبا.
هل سعت داعش لكل هذا؟ ليس مهمًا الإجابة بنعم أم لا. فالأكيد أن داعش قامت بهذا، أرادت أم لم ترد... وليس مهمًا أن نثبت عمالتها أم لا؛ فالمهم أنها نفذت ما يريده العدو حرفيًا؛ فالغبي بحكم العميل في مثل هذه الأمور.
الآن، بسبع دبابات -أو تزيد قليلًا- عززت قوة تحرير مدينة جرابلس، تم إرغام ميليشيا البغدادي على الهروب من المدينة والقرى المجاورة. فالتنظيم كما "تمدد" فجأة بدأ "ينكمش" فجأة، كغيره من التنظيمات التي تتاح لها فرصة "التمدد" لحين انتهاء دورها؛ فتختفي في وقت قصير. وما بين انتفاش أتباع التنظيم بشعار "باقية وتتمدد"، وسلاسل الهزائم والانكسارات والانسحابات المريبة لدولة البغدادي البالونية، كان العديد من الأهداف المرسومة أعلاه قد نفذت أو خطت طريقها للمسير.
لم تكن دولة البغدادي الوهمية "في الاعتبار العسكري غير فقاعة يسهل تفجيرها بسهولة لاتساع رقعتها وهشاشة أمنها الحدودي"، مثلما كتبت قبل عامين في مقال بعنوان "رأس البغدادي أم رأس أردوغان..". تلك هي دولة الرجل الغامض -ككافة الشخصيات المريبة التي تمر مخططات كبيرة عبرها- الذي هو كدولته يظهر فجأة ثم يختفي بعد انتهاء دوره؛ فـ"لربما قتل مثلما قتل جميع قادة "الجماعة الإسلامية المسلحة" (الجيا) الذين حامت حولهم شبهات كبيرة في الجزائر أواسط التسعينات... لكن بالنهاية لا يعني ذلك كثيرًا بالنظر إلى حجم الرأس الكبيرة المطلوبة... رأس أكبر دولة إسلامية صارت تمثل حصنًا أخيرًا للسنة في المنطقة" (المصدر السابق). هذه الجيا التي أنيط بها أن تنتقل بقضية عادلة، إنقلاب العسكر في الجزائر على تجربة ديمقراطية شفافة فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) إلى حيز التجربة الدموية الرعيبة المنفرة لجماعة من الخوارج ومرتزقة أجهزة الاستخبارات الجزائرية (الجيا)، والتي نجحت بامتياز في تصفية حلم تحقيق الإرادة الشعبية للجزائرين، عبر مشاهد الذبح والقتل للمدنيين والتي قامت بها الجماعة، ومعها صفت القضية ذاتها.
إلى حد بعيد، تشبه دولة البغدادي، دولة الجيا التي أسستها في الجبال مع مراعاة فروق الجغرافيا والتاريخ، تمددتا بتواطؤ استخباري، ثم حان وقت رحيلهما. وحين يحين ستزول كل الخيوط التي يمكن تتبعها لمعرفة الحقيقة؛ فكما تمت تصفية جميع قادة الجيا، عبد الحق العيايدة، ثم أبي جعفر الأفغاني، ثم قاري سعيد، ثم شريف قواسمي ثم إلياس أبو عبد الله ثم تاجين محفوظ ثم إلياس محفوظ، ثم الأكثر دموية جمال زيتوني، والأخير الأكثر شراسة عنتر الزوابري خادم الاستخبارات المطيع؛ فقد بدأت عملية تصفية قادة داعش، لاقتراب موعد إنجازها لدورها المرسوم. ولن يكون العدناني ناطق التنظيم الذي قتل بالأمس آخر المستهدفين بطي الصفحة الأخيرة، ومثلما وقعت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قرارًا في أكتوبر 2010 بإسقاط الجيا من لائحة المنظمات الإرهابية لتلاشي الجماعة؛ فإنهم سيطوون من قريب صفحة داعش بعد أن يكون دورها قد اكتمل تمامًا.
لقد أعلنت دولة "الخليفة البغدادي" وزعمت أنها "باقية وتتمدد"، لكنها بعد قليل بدأت في الضمور قبل أن يتمكن خليفتها المزعوم من الظهور أمام الكاميرا المسجلة (لا المباشرة) للمرة الثانية، وفر "رجاله الأشاوس" أمام سبع دبابات تركية يتيمة بعد أن زعمت واشنطن أنها بحاجة إلى تحالف ضم لاحقًا خمسين دولة لتدميرها في سنوات طويلة وميزانية مليارية مفتوحة لغلق ملفها. ولقد أريد لأنقرة أن تتورط في حرب مع داعش، ومن خلفها مدد من الدعم اللوجيستي والعسكري الغامضين في حرب استنزاف طويلة، وأريد لها أن تنخرط عادية ينجلي غبارها عن دولة كردية، ولقد جلس كيري قبل عامين مع أردوغان يحث ويهدد، يرغي ويزبد من أجل أن تقاتل تركيا وحدها هذا التنظيم، لكنها إذ فعلت، وانتبهت إلى خطة تقسيم سوريا وتاليا تركيا عبر طروادة الأكراد، فقاتلت تنظيمات الأكراد الإرهابية جنبًا إلى جنب مع بقايا داعش، أبدت واشنطن انزعاجها، إذ كان الموعد تسليم داعش آخر قلاعها للأكراد تمهيدًا لإقامة دولتهم، لا بل دولة التنظيمات القريبة من الكيان الصهيوني الخاضعة لإمرته وتدريبه وهيكلته.
ليست أمريكا منزعجة لانتهاء دور دولة البغدادي، فهي بالفعل قد سارت حسب ما هو مرسوم لها، لكن المزعج أن آخر حلقات هذا الدور، وهو الخاص بتركيا لم يجر وفقًا لما هو مأمول؛ فالأتراك قد أفادوا من إرهاب داعش في تركيا في شرعنة تدخلهم في سوريا وقصفهم بالعراق ضد تنظيمات بي كا كا وبي يي دي الإرهابيين الكرديين، وهم لقوا ميليشيا البغدادي في لحظة انكسار للأخيرة وحالة انهزامية لمصلحة بي يي دي، فأوقفوا حلم الكيان الكردي، والذي توافقت أنقرة مع موسكو وطهران على عدم تحقيقه، وتفاهم غير مباشر مع دمشق. كما أن التدخل في هذا التوقيت من شأنه أن يضعف العمليات الإرهابية في تركيا، ولما تؤدي وظيفتها في التمهيد لإطاحة حكومة العدالة والتنمية، كما أن التدخل ضد داعش وتنظيمات الأكراد بهذه التركيبة الجديدة من الجيش التركي من شأنه أن يحد من فرص تورط تركيا في سوريا على النحو الذي سعت له واشنطن قبل عامين، كما أنه جاء من البوابة الروسية لا الأمريكية، وهذا لا يجعله متوائمًا مع تطلعات الولايات المتحدة الاستراتيجية.
لكن، أكانت مواجهة الأتراك العسكرية مع داعش في ذروة تمدد الأخيرة أو في لحظة انكسارها؛ فإن الدولة "الباقية وتتمدد" تلقت هزيمة نكراء على يد قوات تعززها سبع دبابات فقط، وبرهنت على "وظيفية" هذه الدولة المزعومة وخليفتها الفار؛ إذ كانت داعش على وشك إكمال المربع الخالي للدولة الكردية باستسلام مريب جدًا؛ فسارعت أنقرة لالتقاطه في اللحظة المناسبة...
هذه الوظيفية التي تجعل أي امرئ يتساءل ببساطة: إذا لم يكن "الخليفة" قادرًا على صون أملاكه في العراق وسوريا، فلم حرم الفصائل من السيطرة عليها، وقدمها من بعد لقمة سائغة للحشد الطائفي في العراق، والميليشيا النصيرية والتنظيمات الكردية الصهيونية في سوريا؟!
- التصنيف:
- المصدر: