حِزب السفهاء
يقال: تسفهت الرياح الشيء إذا استخفته فحركته. ويسمى الجاهل بطرق التصرف سفيهًا
تكشف أحداث السيرة النبوية عن تبلور جبهاتٍ ثلاث خلال الاحتدام بين معسكري التوحيد والشرك:
الجبهة الأولى: يمثلها صناديد مكة وسادة بعض القبائل الذين ناصبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه العداء، واختاروا المواجهة العلنية بالتهديد والوعيد، ثم التضييق والحصار المادي انتهاءً بالحسم المباشر على أرض المعركة.
أما الجبهة الثانية: فينضوي تحتها المنافقون من يثرب، ومن حذا حذوهم في إظهار التوحيد وإبطان الشرك، والسعي الحثيث تحت جنح الظلام لإثارة القلاقل، وإشاعة الفتنة ومباشرة الهدم من الداخل.
في حين يشكل السفهاء جبهةً ثالثة عبرت عن خصومتها ورفضها للرسالة المحمدية بأرخص الوسائل وأقذرها، من شتمٍ واعتداءٍ جسدي ومسٍ بالعرض وغيرها.
قد يحدث تقاطع بين الجبهات الثلاث حين يتورط سيدٌ من الجبهة الأولى في محاكاة السفهاء مثلاً، لكنه مرتبطٌ في الغالب بحالةٍ معزولةٍ فقدت الصواب في لحظةٍ معينة ثم عدلت لاحقًا عن تكرار الفعل، كمثل أبي جهل حين آذى النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه، فلما ضربه حمزة رضي الله عنه وشجه بالقوس شجةً منكرة، أبى أن يتدخل سفهاء من بني مخزوم لنصرته قائلًا: دعوا أبا عمارة، فإني والله سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا!
إن الغرض من هذا التصنيف هو تجديد النظر في نوعية ردود الأفعال التي قوبلت بها رسالة التوحيد، وكيف تم استثمارها لاحقًا لصالح الدعوة ، ثم الكشف عن تجلياتها اليوم في ظل ما يلاقيه الدعاة والمصلحون من محن وشدائد.
فهناك العداوة التي لم تخلو من توقيرٍ للعادات والتقاليد السائدة، وترك حيزٍ مقبولٍ للحكمة والتعقل والتريث، مما أفضى ببعضهم لاحقًا إلى التسليم والإقرار بصدق الدعوة المحمدية.وهي عداوة العاقل الذي يتوجب اليوم احتواؤه وجره إلى ساحة الجدال بالتي هي أحسن، ورد مطاعنه وتبديد شكوكه بالحجة القاطعة والدليل الناصع حتى يتبين له الحق.
ومن مواقف السيرة النبوية التي تُسند هذا الطرح ما حدث لعتبة بن ربيعة، وكان سيدًا في قومه، حين اقترح على قريش أن يفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم لترك أمر الرسالة مقابل السلطان والجاه والثروة، فلما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آياتٍ من القرآن الكريم رجع إلى أصحابه لينصف خصمه حتى في أشد اللحظات حرجًا وضيقًا قائلًا: "إني سمعت قولًا والله ما سمعت بمثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه.فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه مُلككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به".
ولنا أن نتخيل كيف سيكون الوضع لو رجحت كفة رأي الوليد والعقلاء أمثاله في إدارة الخلاف مع الجماعة المسلمة في مكة!، ثم هناك النفاق الذي أرسى دعائمه عبد الله بن أبي بن سلول، وأفرد له الوحي سورةً كاملة يحدد فيها بدقةٍ عجيبة خصائص هذا السلوك المقيت وأحوال أهله، ويرشد المؤمنين إلى سبل توقي مكائدهم.
لقد كان المنافق في يثرب أنموذجًا للإنسان الذي أصيب بعمى القلب وانطماس البصيرة، فلم تغمره أنوار الحق في لحظةٍ تاريخية غير مسبوقة: رسول يُربي و يعلم ويزكي، ووحيٌ إلهي يتنزل ليُثمن المواقف ويُثبت الأقدام على النهج القويم، وجماعةٌ مسلمة تصوغ أبلغ معاني البذل والتضحية والسمو بالنفس إلى مراتب الكمال.
لذا كان المندسون منهم في مراكز صنع القرار أشد خطرًا وأبلغ فتكًا بالأمة من عدوها الخارجي، وكان التحذير القرآني بالغ الوضوح في شأنهم حين قال سبحانه: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [ المنافقون: 4].
وأما فئة السفهاء التي عليها مدار هذه الأسطر فهي أبلغ تعبير عن النزق الإنساني، والخفة التي تستبد بالعقل فينطفئ سراجه، وتنفصل أحوال صاحبه عن مقتضى الرشد والاحتكام للقيم والأعراف السائدة. وتحيل مادة (سفه) في المعاجم على معاني خفة العقل والحركة.
يقال: تسفهت الرياح الشيء إذا استخفته فحركته. ويسمى الجاهل بطرق التصرف سفيهًا، ومنه قوله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وهم النساء والصبيان لأنهم جهال بموضع النفقة. بيد أن أسوأ تجليات السفه والطيش هي ما لقيه الأنبياء والمصلحون منذ نوح عليه السلام وحتى يومنا هذا، حيث انتصب السفهاء دومًا كأحد خيارات المواجهة التي لا يُشترط فيها التقيد بعرف سائد أو خلق، بل يتاح للسفيه كل أشكال الضرب تحت الحزام، والحرص على المبالغة في إيلام الخصم ولو بأحط الأساليب وأقذرها، فحيثما كان الترفع سمة الخصم العاقل وجدتَ السفيه يباشر الفعل أو يستكمله.
ومن نماذج السفه التي لقيها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إيذاء بعض جيرانه له، كعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وأبي لهب وزوجته. فمنهم من طرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، ومنهم من ألقاها في قدر الطعام حتى اضطر صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ سقيفة أو نحوها ليستتر بها منهم إذا صلى، ومنهم من ألقى في ممره الشوك ليؤذي قدميه. وطوال ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة في مكة كرس "حزب "السفهاء جهده لانتهاج أحط أساليب الإيذاء التي يمجها العقل السليم، إرضاءً لسيدٍ حاقد "كحالة أبي جهل "،أو تعبيرًا عن سخط القبيلة.
وعلى مر التاريخ تكررت الأساليب ذاتها مع علماء ومفكرين ودعاة لتوهين عزيمتهم، وثنيهم عن إصلاح وضع مختل، أو حفز ذاكرة الناس ليواصلوا السير على نهج السلف. وكم وددت لو أن شيخنا الجليل "عبد الفتاح أبو غدة "رحمه الله خصص جانبًا إضافيًا في كتابه القيم " صفحات من صبر العلماء " ليعرض نتفًا من أخبار أهل العلم والفقه مع السفهاء ،وما لقيه بعضهم من تضييق وتشنيع !
أما اليوم فقد أتاحت مبتكرات التواصل فضاء أرحب ليعيث فيه السفيه فسادًا، وليبث سمومه متسلحًا بحق التعبير والرأي والسلطة الرابعة للإعلام.
نعم، أصبح لحزب السفهاء اليوم صحفٌ مكتوبة، ومواقع إلكترونية، وقنوات فضائية تحمل المجتمعات الإنسانية طوعاً أو كرهًا على التطبيع مع البذاءة والفحش والرخص القيمي. فغدت الفضائح وعورات البيوت، وأخص شؤون المرء مع أهله وجبةً يومية تتناقلها وسائل الاتصال، ويتجاوب معها الصغار والكبار دون أدنى اعتبار للحدود الأخلاقية التي سنها الشارع الحكيم. بل وتمكن السفيه من جر بعض"العقلاء " إلى صفه لتلميع واجهته الإعلامية، وإقناع المتردد والمرتاب بأن السُفه ضرورةٌ اجتماعية لرتق الفجوة الحضارية بين عالمين!
سال مدادٌ كثيرٌ لتطويق الإعلام بمنظومةٍ أخلاقية تحد من شططه، ووُضعت خطوطًا حمراء لحريات التعبير والرأي خاصةً بعد أن ارتخت قبضة القيم والمبادئ، لكن ذلك لم يحد من الهبوط المريع في الفكر والحس والذوق، وتضخيم أسباب الخلاف والخصومات، مادام لحزب السفهاء موطئ قدم في واجهات التخاطب الإنساني ومراكز القرار!
- التصنيف: