الحرب المذهبية الكبرى (2)
تتعدد اللدغات والجُحر واحد
تتعدد اللدغات والجُحر واحد
" .. الذاكرة ملأى بتجارب مضت في عهود انقضت، وحادثات مماثلة في الماضي القريب، وأحدث منها ماثلة أمام المتابع الرقيب، يمثل "بطل" كل قصةٍ فيها أداة ضرب وأذى، لا تتعدى حال (العصا) التي يُضرب بها ثم تُكسر:
* هل نتحدث هنا عما حدث لـ (محمد علي باشا) في حروبه التوسعية التي أراد بها الإضرار بالدولة العثمانية بعد أن كان أحد قادتها؛ حيث حاول الاستقلال بمصر والسودان، ثم طمع في الحجاز ونجد، وتطلع للتوسع في الشام، بل تجرأ على عاصمة الخلافة نفسها بمباركة من الدول الاستعمارية آنذاك؛ حيث كان الأعداء يؤزونه ويؤازرونه، حتى إذا ما أكمل المهمة المرسومة تنكروا له ثم انقلبوا عليه.
وذلك لما رأوا أنه كاد يقيم كيانًا فتيًّا بديلاً للكيان الموجود بعد أن أصابه الترهل والجمود، فتآمروا عليه ثم اجتمعوا ضده في معركة «نافارين» البحرية عام 1827م، ودمروا أسطوله البحري الذي تطلع أن يقيم به إمبراطورية كبرى، وأجبروه بعد ذلك على القبول بولاية صغرى في مصر يرثها هو وأبناؤه!
* هل نستدعي بعد ذلك ذكريات «الشريف حسين»، وكيف كرر التجربة البائسة بضرب دولة الخلافة من الظهر بدعوى «الثورة العربية الكبرى»؛ لإنشاء كيان وهمي قادم على أنقاض كيان حقيقي قائم؟ لقد أغروه بوراثة مُلك آل عثمان، ووعدوه بالدعم والمؤازرة! ثم ماذا كان؟ لقد جحدوه بعد هزيمة تركيا التي شارك في صنعها، وخلعوه من وهم الخلافة قبل أن يحظى بها، حتى مات حسيرًا كسيرًا بعدما سقطت دولة التُرك، ولم تقم دولة العرب!
* وهل نتذكر ما حدث بعد ذلك بعقود مع (جمال عبدالناصر) الذي تُرك يفرِّق العرب باسم الوحدة العربية، ويُفقِر شعبه باسم الاشتراكية، ويحارب الدين على أنه «رجعية»، ويتظاهر ببطولات زائفةٍ لم يظهر لها أثر إلا في توهين أمر المسلمين في مصر وغيرها، حتى إذا ما انتهى من معاركه الاستعراضية ضد الأخيار، خلَّى أولياؤه بينه وبين اليهود الأشرار، فهُزِمَ جيشه بقسوة على أيديهم في حرب الفضيحة عام 1967م، التي مات بعدها دون أن يحرر هو ومن معه من الضباط «الأحرار» ما ضاع من فلسطين، بل أضاعوا أضعافًا أخرى منها ومما حولها!
* هل ننسى من مسلسل الأحداث ما تكرر مع مَن ضاهى عبدالناصر في الرمزية القومية؛ وهو صدام حسين؟ لقد سُلط بعمدٍ، وهُيِّئ بقصد، لقصقصة أجنحة الكيان الشيعي الثائر في إيران؛ لأن ذلك الكيان كانت له حدود لا ينبغي تعديها، حتى يظل أداة استنزاف للأمة، دون أن يتمكن من منافسة الغرب في أكثر بقاع العالم أهمية وحساسية.
ولهذا كان ذلك الغرب يدعم كلاً من إيران والعراق بالسلاح في حرب الخليج الأولى التي امتدت لثماني سنين، حتى إذا ما كَسَر صدام كبرياء الفرس، وتهيَّأ للزعامة على عموم العرب، أُغري بنقض عُرى «القومية العربية» التي تزعمها بعد عبد الناصر؛ بغزو دولة عضو في "الجامعة العربية"؛ لأسباب رآها مصيرية، لتتسلسل الأحداث بعد ذلك في حرب خليج ثانية عام 1991م أسقطت فيها هيبته، ثم ثالثة عام 2003م أسقطت فيها دولته، وكُسرت عصاه التي كسروا بها إيران!
* ودعونا نتأمل أيضًا: كيف ضُرب الروس بالمجاهدين في أفغانستان إبَّان الغزو السوفييتي؛ بدعم معلن من الغرب والأمريكان، ثم أُطلقت -بعد دخول كابل- فتن المخابرات الدولية وتوابعها العربية، للإيقاع بينهم في «معارك ما بعد النصر» حتى كاد المجاهدون القدامى يُفني بعضهم بعضًا في حرب أهلية عبثية! ثم هُيئت حركة طالبان لتُجهز في بضع سنين على الجميع، كي يُجهز على دولتها بعد ذلك في بضعة أسابيع!
* وفي الصومال: جمعت حركة (المحاكم الإسلامية) أوراق شتات الصوماليين بعد أن كاد القراصنة ينشئون دولة على أشلائها، وكسر رجال الحركة ظهر اللصوص وقُطاع الطرق، وأعادوا الأمور إلى نصابها، وما أن تهيأوا للعودة بأحوال الصومال إلى مصافّ الدول المعترف بها بعد فراغ في السلطة لنحو خمسة عشر عامًا؛ حتى سُلِّط الأحباش النصارى على منقذي الصوماليين المسلمين، فاجتاحت إثيوبيا البلاد، ثم جرى احتواء قائد تلك الحركة بما يشبه الأسر والاستعباد، ليُعين رئيسًا مرؤوسًا لغيره، وليُضرَب بعد أن ضَربوا به، ثم تجيء حركة الشباب الإسلامي لتطيح بما تبقى من الحركات الإسلامية في الصومال قبلها.. ثم لا تبقى هي بعدها!
* وفي العراق، وبعد الغزو الأمريكي؛ بدا للعيان أن الأمريكان ومن شايعهم من عملاء إيران مقبلون على هزيمة منكرة على أيدي مجموعات المجاهدين العراقيين القادمين من وراء الحدود نصرةً لإخوانهم من أهل السنة، فلم يجد الغزاة والمتواطئون معهم مخرجًا من الورطة إلا بإخراج أدعياء للسنة لمقاومة المقاومين و"جهاد" المجاهدين من أهل السنة، في جيش من العملاء أو المغفلين المنسوبين للسنة قوامه خمسون ألفًا تحت رايات صليبية وشيعية وبمسمى «الصحوات»! التي أُطيح بها بعد ذلك، لتصبح الساحة بعد زمن قليل شبه خالية إلا من إيران التي تقاسمت الغنائم مع الأمريكان!
واليوم نخشى اليوم تكرار التجربة بحذافيرها في الشام.. " (انتهى النقل من ص 199-201)
ملاحظة: هذا الكلام كتبته ضمن كتاب (حتى لا يستباح الحرم) في أواخر عام 2015 ، وبعده حدثت ولا تزال تحدث متغيرات كثيرة تدل على أننا لانزال نُلدغ من نفس الجُحر...ونُضرب بذات العصا..!
- التصنيف: